لا كُليب مات.. ولا الزير يثأر
لا جديد في الحرب سوى المزيد من مشاهد الدمار والنزوح والموت، والغموض يكتنف ما ستحمله الأيام القليلة القادمة لأوكرانيا بصفة خاصة وأوروبا والعالم بصفة عامة. يبدو أن روسيا عازمة على الاستمرار فيما بدأته، بالرغم من العقوبات التي فُرضت عليها، وأوكرانيا مصممة على عدم التراجع بالدفاع عن نفسها.
صور آلاف الأوكرانيين في محطة قطار مدينة خاركييف فراراً من القصف الروسي تثير هلع الجميع وكأنها تعيد بعض ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية، فيما تصريحات عدد من القادة والمسؤولين الأوروبيين في فرنسا وألمانيا وإيطاليا تبين مدى الاستياء مما وصلت إليه الأمور.
كامالا هاريس نائبة الرئيس الأميركي زارت دول البلطيق، ومن يدري فقد تكون إستونيا أو لاتفيا أو ليتوانيا مستقر عين روسيا التي تواجه التصعيد السياسي والاقتصادي من جميع الدول المتحالفة ضدها. وبينما يراهن كثيرون على إنهاكها بعد أن طالت العقوبات معظم أنشطتها، إلا أن هذا لا يعني أنها لم تدرس الموقف من جميع جوانبه، وستختار بالتالي الطريق التي ستصل من خلاله إلى النتيجة الأقل كلفة عليها.والعقوبات لن تطال روسيا وحدها، بل ستضر بمصالح أوروبا التي تعتمد على الغاز الروسي وعلى موارد أخرى. وحينما يصل سعر برميل البترول إلى 140 دولاراً وسعر المتر المكعب من الغاز إلى 2500 دولار، فهذا لن يلحق الضرر بروسيا لأنها المصدر الرئيسي لهاتين المادتين اللتين لا بديل عنهما حتى اليوم، وبالتالي ستتمكن من تغطية كلفة حربها مع تعويض جزء من الخسائر التي تواجهها. في المقابل تئن الدول المستوردة من ارتفاع الأسعار، وعلى ضوء ذلك قد تحدث مفاجآت تعيد بعض الدول النظر بعلاقاتها مع الصين التي ازدهر اقتصادها مع أول أيام الحرب على أوكرانيا، وأول صفارة إنذار دوت عالياً في عدد من مدنها.
مخاض عسير قد ينتج عنه نظاماً عالمياً جديداً، وهي مرحلة صعبة وحرجة في مختلف جوانبها الإنسانية والاقتصادية والعسكرية لطالما أن الأطراف المعنية غير مستعدة للتنازل والتفاوض، والروس بالدرجة الأولى لهذا قد تطول الحرب وتطال مناطق أخرى.
إن خلق نظام متوازن يحقق الأمن للعالم أجمع، وهو ما يتطلب من الدول الكبرى على وجه الخصوص عدم استخدام مبدأ القوة والتهديد والتخويف، إذ لم يعد مقبولاً أن يُحكم العالم بالمنطق الذي ظل سائداً حتى إلى ما بعد الحرب الباردة.
التوازن القائم على احترام السيادة أمر مهم جداً، وبالتالي فإن السماح بخرق ذلك الاحترام سيفتح الباب على مصراعيه لهيمنة الدول قوية على الدول ضعيفة والتحكم بشؤونها وحدودها، وهذا ما لم يمكن احتماله لأنه سينتهي إلى نشر الفوضى.
الصورة اليوم ومن دون رتوش تؤكد أن أميركا وروسيا في صراع، لكن ليس بشكل مباشر إنما على حساب أوكرانيا التي ستحتاج لسنوات طويلة كي تتعافى من تداعيات الهجوم الروسي، وفي المقابل أوروبا كلها رهينة تلك الحرب التي ما تزال تُنذر بالأسوأ.
تلك هي «حرب بسوس» جديدة في أوروبا، حيث لا ناقة لها فيها ولا جمل، وهو ما سيجعلها الطرف الخاسر حكماً، سواء دعمت أوكرانيا أم وقفت على الحياد.. حرب لم يقم بها الزير سالم ثأراً على مقتل أخيه كليب، ولم يُقتل بها كُليب أصلاً على يد ابنه عمه جساس ابن مرّة. كل ما في الأمر أن الصراع على المصالح أوصلنا إلى النقطة التي نحن فيها، واللحظة التي نعيشها، والتي تنزح خلالها عائلة أوكرانية أخرى نحو المجهول تحت قصف أعمى وصفارات إنذار لا تهدأ.