مثل الأمس، غادرنا الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم رحمه الله، لكنه لم يفارق حياتنا لحظة، لقد رحل جسده الدنيا ولكن روحه تسكن منا الوجدان.
بعد شهور من وفاته وفي مجلسه جاورني من اختفى عن زيارة هذا المكان المفعم، «سلوم عالزمان». لك مدة طويلة لم نرك. قال: لا أملك القدرة على المجيء لأنني لا أتصور المجلس قائما بدونه، أتذكر أسفاري معه سواء في القنص أو غيره.
ثم ألقى نظرة فاحصة على أنجال المرحوم فقال: انظر إلى جلسة الشيخ راشد كأنه حمدان. فعلمت من ذلك بأنه صديق الطفولة وليس فقط من رواد المجلس الأوائل، ومرت شهور أخرى ولم ألحظه بعد ذلك في مجلسه.
وأثناء حياته كانت قضايا الشأن العام حاضرة بين عينيه ثناءً ونقداً، فلا يجد أحد حرجاً من قول ما يخطر على باله، وكان رحمه الله يشارك بإيجابية قل مثيله في الحالتين.
وبعد وفاته تحدث أحد الرواد من أعيان البلاد في ذات الشأن، فرد عليه أحد الحاضرين بترك ذلك، فرد عليه حالفاً بالله بأنه في أحد الأيام وفي هذا المجلس دخل على الشيخ حمدان رجل كأنه يريد أن يهاجمه، فبدأ حديثه والغيظ يتقطر من بين شفتيه والكلمات القاسية تخونه دون أن ينتبه لمن أمامه لا مقاماً يراعي ولا شخصاً يحترم فضلاً عن صاحب السيادة.
الجميع في حالة ذهول واستغراب بانتظار ردة فعل الشيخ حمدان، فسارع الرجل بالخروج دون استئذان أو وداع بسلام، إلا أنه أثناء خروجه، ناداه الشيخ حمدان قائلا: إن كان لديك شيء آخر تريد قوله ولم تنته منه فارجع لإتمامه، فلم يعد. هذا حمدان لمن لا يدرك بعد نظرته وحكمة بصيرته، لم يكن مجلسه يوما للمحاسبة، فأخلاقه السامية تكسر عين كل خطاء. فوجه صاحبنا حديثه إلى لائمه قائلا: ألا يسعكم ما وسع حمدان في حياته؟! وجدان مقربيه لا زال حيا لم تطفأ شمعته، فالطريق لا زال مضيئا بسجايا حمدان بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
فلا زال الود محفوظا والوفاء لنهجه ماضيا يشق مساره كما كان مرسوما في حياته دون اللجوء إلى المراسيم ولا الرسميات.
وقبل أيام من أواخر العام الماضي 2021، كنت في محضر أنجال الشيخ حمدان الكرام، فإذا بالمكان يمتلئ بنسخ من سِفر جديد عن سيرة هذا الرجل النقي وقد عنون الكتاب الوفي ب «القلب النقي» مختوم بابتسامته التي لم تفارق محياه يوما.
فما أجمل هذه الهدية التي سطرت بمداد نجله الشيخ راشد الذي تقطر من هذا الكتاب وفاء البنوة للأبوة حقا في عبارات تشحذ الهمم وتحث السير على خطاه وتتعاهد ألا يفارقوا نهجه ولا يتراجعوا عن سلوكه الفريد في إدارة شؤون البلاد والعباد كما عهدوا في لمسات الحانية ليس مع أنجاله فحسب، بل مع كل من أحاطه بعين رعايته.
ومع تكرار الزيارة لهذا المجلس الموقر بوقار مؤسسه، لمحت مع مرور الأيام قبضة من أثر حمدان رحمه الله في سلوك وحديث أنجاله مع رفقاء درب والدهم الذي بذل كل ما في وسعه، لترك ميراث ثمين يفوق مرارا مواريث الدنيا الزائلة، فهنيئا لحمدان في قبره، فإن لم يترك شيئا غير أفراد أسرته فقد ترك خيرا عظيما.
كاتب إماراتي