تناولتُ في مقالة الأسبوع الماضي حول الإعلام في الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا ظاهرةَ توظيف الإعلام في الحرب، وهي ظاهرة قديمة يُستخدم الإعلام بموجبها كسلاح في الحرب بالتركيز على نبل مقاصد مصدره وضخامة إنجازاته وتشويه الخصم بكل الطرق الممكنة وإبراز عثراته والتسفيه من إنجازاته إن لم يكن إغفالها. ويتحول الأمر كذلك من «إعلام» إلى «دعاية» بحيث يصعب على متابعيه معرفة الحقيقة. وأذكر في متابعة الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) أن شهوراً كانت تمر أحياناً قبل أن نعرف حقيقة ما جرى في معركة ما. وقد شاركت قبيل نشوب الحرب في أوكرانيا في ندوة عن الإعلام والقوة الشاملة للدولة، وأثناء المناقشات اشتكت سيدة فاضلة من أنها لا تتمكن من تمييز الحقيقة فيما تتعرض له من طوفان الرسائل الإعلامية المتناقضة، ونصحتُها كما أنصح طلابي عادةً بتعدد المصادر إلى أن تتبين الحقيقة أو على الأقل القاسم المشترك بين الرسائل الإعلامية المتناقضة، ولم أكن أتخيل أن هذا سيكون حالي بعد أيام قليلة حينما تعرضتُ بعد نشوب الحرب لنفس المعضلة التي تعرضتْ لها تلك السيدة الفاضلة، فأضفت للفضائيات التي تعودتُ على متابعتها الفضائيةَ الروسيةَ الناطقةَ بالعربية التي أعلم أنها لا بد أن تكون متحيزة بحكم انتمائها لأحد طرفي الصراع، غير أنها زودتني للأمانة ببعض الأبعاد الغائبة المهمة في التغطية الإعلامية للفضائيات المتحيزة على الطرف الآخر، وهكذا أصبح البحث عن حقيقة ما يجري يتضمن مشقةً حقيقيةً على الأقل من منظور زيادة الوقت المطلوب للاقتراب من الحقيقة إلى ثلاثة أمثاله وربما أكثر.
ومن المتابعة الكثيفة لوسائل إعلامية متعددة يظهر العديد من أبعاد الزيف الإعلامي الذي أزعم أنه أقل سفوراً على الجانب الروسي، فالفضائية الروسية مثلاً لا تركز بالطبع على المعاناة الإنسانية في مناطق القتال أو الدمار الناتج عنه، وقد تُخفي بعض التفاصيل غير المواتية للجانب الروسي، لكنها تذكر أرقاماً تبدو معقولةً ولو نسبياً لخسائر جانبها من القتلى والجرحى، فيما تعلن أوكرانيا عن سبعة أمثال هذه الخسائر (أكثر من 14 ألف جندي). وبالمقابل فإن تقارير إعلامية غربية عديدة تضمنت قدراً لا يمكن تخيله من الزيف، فهذا تقرير يُظهر هروبَ المئات من القصف الروسي وهم في حالة من الذعر الكامل، ثم يقوم الطرف الآخر بعرض المشهد الحقيقي فيتضح أنه لقطة تجريبية في فيلم بدليل أن عرض المشهد بالكامل يُظهر عودة هذه المئات في هدوء إلى نقطة البداية لإعادة التصوير، وهناك التقرير الذي كان المراسل الإعلامي يتحدث فيه عن سقوط عشرات القتلى نتيجة القصف الروسي وفي خلفيته عشرات الجثث المغطاة بإحكام فإذا بإحدى الجثث ترفع الغطاء لتعرف ما إذا كان التصوير قد انتهى أم لا، ونُشِرت صورة الدمار الواسع الذي نجم عن انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 باعتباره ناجماً عن القصف الروسي، وصورةَ حطام طائرة في طريق عام على أنها طائرة روسية أسقطتها الدفاعات الأوكرانية فيما هي لقطة في فيلم أميركي عن حرب النجوم.. وغير ذلك الكثير مما لا يتسع المكان لنشره. ولا يقل أهميةً عما سبق قرار حظر الفضائية الروسية كجزء من العقوبات على روسيا، وهو قرار شديد الدلالة بقدر ما يتناقض مع مبادئ وممارسات مستقرة في التحالف الغربي الذي يعتبر بلدانه نموذجاً لليبرالية بكل تداعياتها على قضايا كحرية التعبير. وكم نددت هذه البلدان بممارسات لدول «تقيد الحريات»! والأهم من هذه الازدواجية هو دلالة الحظر التي تعني العجزَ عن الرد المُفحِم على ما تبثه هذه الفضائية من محتوى.. فاللهم أعِنا على تبيّن الرشد من الغَي.

أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة