تجدر الإشارة إلى أن بعض أوجه الصراعات الدائرة حالياً بين الدول الكبرى، ما هي إلا انتكاسات لأزمات أعمق ذات أبعاد استراتيجية واقتصادية ستؤدي إلى قلب موازين القوى في العالم وبروز قوى جديدة، وتراجع أخرى لا زالت تبذل جهوداً كبيرة للمحافظة على نفوذها. فالحرب الأوكرانية والتوترات حول تايوان تعتبر أحد مظاهر هذه الصراعات التي ستكتسب أبعاداً خطيرة في الفترة القادمة.
ولنأخذ على سبيل المثال القرار الذي اتخذته مجموعة السبع في اجتماعها نهاية شهر يونيو الماضي والقاضي بتخصيص 200 مليار دولار لإيجاد شراكة عالمية في البنية التحتية لتشمل البلدان النامية، إذ يبدو أن هذا القرار جاء رداً ومنافساً للمبادرة الصينية العملاقة «الحزام والطريق»، والذي قطع شوطا كبيرا نحو ربط الصين بالأسواق العالمية ضمن شبكة واسعة من الطرق البرية والبحرية للتحكم بالتجارة، وهو ما يخيف الدول الغربية.
ويبدو المبلغ المخصص من قبل مجموعة السبع متواضعاً جداً، ويشكل 10% فقط من المبلغ المخصص للمشروع الصيني والبالغ 2 تريليون دولار، إذ يتضح أن قدرات المشروعين متفاوتة بصورة كبيرة، وأن آفاق هيمنة كل منهما متفاوتة بدورها، ما يمنح الصين أفضلية إلى جانب عوامل أخرى سنوجزها لاحقاً، مما حدا بالدول الغربية إلى محاولة عرقلة المشروع الصيني بعوامل غير اقتصادية من خلال خلق أزمات في مسارات «مشروع الحزام والطريق»، سواء من خلال الحروب والنزاعات، أو من خلال إثارة القلاقل، كما حدث في ميناء جوادر الباكستاني والذي يمثل أهمية كبيرة للمبادرة الصينية.
ولنأتي إلى حظوظ كل من المشروعين، فلكل منهما جوانب قوة وضعف، فقوة «الحزام والطريق» تكمن في حجم الاستثمارات الضخمة التي خصصت له، والتي أدت وتؤدي إلى سرعة تنفيذ المشاريع المرتبطة به، كما أن السخاء الصيني يمنح مشروعها أفضلية كبيرة، مثلما حدث في أفريقيا وآسيا، وذلك إلى جانب رخص تكاليف تنفيذ المشاريع، أما نقاط ضعفه فتكمن في القضايا الأمنية التي تواجه عمليات التنفيذ، والتي يقع بعضها في دول ومناطق غير مستقرة تسودها نزاعات دائمة.
أما المشروع الغربي، فإن قوته تكمن في الهيمنة الغربية على التعاملات المالية والنقدية وفي التأثيرات السياسية والعسكرية التي تتمتع بها دوله، إلا أن ما ينقصه بصورة كبيرة، هي الأموال وعمليات التمويل، فالمبلغ المخصص لا يعني شيئاً بالنسبة لحجم المشروع، كما أن جزءا كبيرا من مشاريع مسارات التجارة الدولية تمر عبر البلدان النامية والتي لا زالت تتحسس من الماضي الاستعماري للدول الغربية، وترى في الصين دولة يمكن التعامل معها بصورة أكثر عدالة ومساواة.
ومجمل هذه العوامل دفعت صحيفة «بوليتكو» الأميركية للقول «إن قمة مجموعة السبع للدول الأكثر تقدماً اقتصادياً في الغرب فشلت على جميع الجبهات، مضيفة أن القرارات التي أقرها القادة تعبر عن هزيمة ذاتية مثيرة للجدل»، مما يعني أن التقدم السريع للمشروع الصيني والسير البطيء للمشروع الغربي، سيؤدي إلى اشتداد حدة الصراع والذي لن يقتصر على الجوانب الاقتصادية والتجارية، وإنما سيشمل جوانب أخرى أكثر خطورة، والتي ستؤدي إلى نشوب المزيد من الحروب والنزاعات.
ولكن ماذا بشأن منطقة الخليج والعالم العربي بشكل عام؟ الملاحظ وضمن التوجه العربي القوي الرامي الى حماية المصالح الوطنية من خلال القرارات الأكثر استقلالية أنه يتعامل مع هذه المشاريع بما يخدم مصالحه الوطنية بصورة أساسية، بدليل تركيز مشاريع «الحزام والطريق» في الآونة الأخيرة على دول الخليج العربية، حيث تم تحويل بعض استثمارات المشروع من البلدان الآسيوية إلى دول مجلس التعاون الخليجي، والتي تملك أفضليات، وتتمتع ببنى تحتية متطورة وخدمات راقية.
وهنا تكمن أهمية اتخاذ القرارات الصحيحة التي تخدم قضايا التنمية في مختلف البلدان، فالعالم أضحى أكثر تعدداً ويتيح خيارات لا حدود لها بفضل المنافسة بين قوى صاعدة بقوة وأخرى تحاول المحافظة على ما تبقى لها من نفوذ آخذا في التراجع ليس بسبب انخفاض قوتها الاقتصادية فحسب، وإنما بجملة من الأخطاء التي أبعدت عنها العديد من الحلفاء وأوجدت بينهما أزمة ثقة عميقة.
* مستشار وخبير اقتصادي