كثيراً ما يتبادر إلى الذهن سؤال حول الفرق بين المقالة التحليلية والمقالة الفكرية، فما هو الفرق بينهما؟ وهل توجد في الواقع العملي مقالة تحليلية صرفة ومقالة فكرية صرفة؟ وما معنى تحليلي في لغة الكتابة السياسية المعدة للصحافة؟ وما معنى فكري في المجال؟ وكاتبكم لن يجيب على هذه التساؤلات، فلذلك مقام آخر، لكن دعوني أقول بداية إن ما ينعت بأنه مقالة تحليلية، وأخرى فكرية هما توأمان متلازمان، وربما أن للفكر فيهما غلبة على التحليل.
وفي تلك المناسبات غير المتكررة وغير الاعتيادية أو كثيرة عندما يرغب القراء في الإطراء على ما يكتبه كاتب في الصحافة حول السياسة فهم يقومون بمدحه من حيث كونه صاحب «فكر» نير وعميق في ما يكتبه أو يقوله، بمعنى أن ما يخبرهم به فيه عمق فكري ينير لهم الطريق ويرشدهم إلى فهم جوهر المواضيع التي يكتب فيها.
وهذا يعني أن ما يكتب فيه فكر متعمق ذو فائدة كبيرة لمن يقرأه، وهذه مسألة جاذبة للقراء. أما عندما تكون الكتابة تحليلية صرفة ومبنية على افتراضات مجردة وخالية من الفكر، فإن ما ينتج عنها هو مقالة افتراضية لا روح فيها.
وفي تقديري أن كل كتابة تخلو من الفكر وتعتمد على التحليل المجرد هي كتابة غير مفيدة وتحرث في الأراضي المالحة. وفي كثير من الحالات التي تخلو فيها المقالات من الفكر وتعتمد على التحليل الصرف ينعت من يكتبها بأنه كاتب غير قابل للتنبؤ بما يريد قوله.
وما يرمي إليه جمهور القراء من وصف من هذا القبيل هو أنه توجد عناصر من عدم الالتزام في ما يكتب واستدارة لا يمكن توقعها في ما يقوم بطرحه دون الاعتماد على فكر محدد.
إن الكاتب في السياسة الذي يعتمد على التحليل فقط القائم على افتراضات صرفة هو كالربان الذي يبحر بالسفينة دون دفة، فهذه السفينة يكون مصيرها الغرق.
إن الكتابة بلا فكر والتحليل السياسي غير المرتكز على الفكر منهج لا يوصل من ينتهجه إلى لب الحقيقة وجوهرها، لأن العمل الذي يؤديه افتراضي يقوم به صاحبه وهو لا يعكس أي منهج فكري محدد أو فلسفة سياسية واضحة، ولا يمكن تصديق ما يقوله صاحبه أو التنبؤ المستقبلي بما يرمي إليه.
والجانب الذي يثير قلقاً لدى في حياتنا الثقافية والفكرية وربما السياسية - الاجتماعية، هو وجود جهات وأطراف تحاول أن تفسر المسائل والبشر على هواها ومزاجها دون ما وجود أدلة موضوعية دامغة على ذلك. مثل هذه التصنيفات تعطي صفات سياسية وفكرية محددة لأشخاص هم ليسوا كذلك في حقيقتهم ما يجعل من مهمة المفكرين والكتاب صعبة جداً ويولد لديهم إحساساً بأنهم مأسورين من قبل تصنيفات وأوصاف نمطية، لكنها غير مناسبة وتطلق في فراغات جوفاء.
وفي سياق النعوت والأوصاف التي أتحدث عنها وصفت مقالة لي بأنها «فكرية»، فلديَّ مسألة الكتابة في السياسة والمجتمع والشؤون العامة أمر فكري ولا يمكن أن يكون غير ذلك وإن تخلله شيء من الوصف والتحليل.
ويعود السبب في ذلك إلى أنه ليس من الممكن لي الخوض في هذه المسائل بعمق والوصول إلى نتائج إيجابية تخدم الدولة والمجتمع دون وجود فكر ومنطق وفلسفة سياسية واجتماعية صلبة فيها تشد عضدها وتسندها، ومن أراد لي أن أكون غير ذلك، فهو يتحدث إلى الشخص الخطأ وليس لديه دراية أو خبرة بماهية الكتابة الصحيحة في خدمة الدولة والمجتمع وعامة الناس.
وربما أنه خاف على العديدين بأن تراكم خبرة الكتابة والقول في الشأن العام لدي تعود في عمر الزمن إلى العام 1963، ومع مرور هذا الوقت الطويل أصبحت مصفوفة كالعناقيد، وهي مرتكزة على نمط من الفكر والمبادئ الراسخة التي لم يعد لديّ متسع من الوقت للحياد عنها أو تبديلها، وستبقى ثابتة ومؤكدة إلى آخر العمر.
وبالإضافة إلى ذلك طوال تلك المدة عملت على الابتعاد عن الأوصاف السياسية الحادة لإيماني بأن الأوصاف تبعد القراء عن كتابهم، وهذا حق مشروع أمارسه كما أشاء، ومن أرادني أن أكون غير ذلك، فمطلبه ليس عندي، فأنا لا أكتب دون فكر أو دون تحليل، لأنه لا يمكن فصل التحليل عن الفكر أو فصل الفكر عن التحليل فهما وجهان لعملة واحدة.
* كاتب إماراتي