كل نموذج له ما يضاده، ولكل فكرةٍ مصلُ نقضها. كما أن لكل فكرةٍ منطقها ومخاتلتها. والأفكار التي ندافع عنها نألفها، لأننا ندرك ظروفها ونطمئنّ لجانبها، واقتناعنا بها ليس تسليماً لها وإنما احتواءٌ لها بغية مساءلتها كل يوم. والأفكار التي لا تتعرض يومياً لأسئلةٍ تهزّها وتستفزّها مجرد قناعاتٍ صُدّقت من دون أن تأخذ مخاضاتها البحثيّة قبل ألفتها واحتوائها.
والأفكار مثل الناس تولد ثم تكبر ثم تشيخ ثم تتآكل لتكون هشيماً يحفظه التاريخ، يصحّ هذا على الأفكار الشمولية، كما يصحّ على الأيديولوجيات السياسية والنظريات الشاملة المترابطة، تأخذ وقتها ثم تشيخ، هذا على عكس المفاهيم التي لديها عيون القطط ما إن نظنّ أن الظلمة معتمةً إلا وتضيء في الليل البهيم.
لكل فكرةٍ صلاحيتها ونقائضها، أعطالها وأشغالها، ظلامها وضوؤها، والذين يعتقدون أن ما يمتلكونه من قناعاتٍ هي أفكار نهائية تستمر معهم من المهد إلى اللحد أناس انقرضوا فعلياً وتعطّلت أدمغتهم وشبعت روحهم المعرفية موتاً. من بين المفاهيم التي لم تنقرض تلك التي تجرّب دائماً عبر تطبيقاتها والتجارب التي تجري عليها، إنها «الديمقراطية». 
والعلاقة بين الديمقراطية والثقافة وثيقة، ومن جميل ما وصفها جورج طرابيشي حين كتب: «سمكة الديمقراطية لا تبقى حيةً في حال نقلها من حوضٍ مجتمعيّ إلى حوضٍ آخر، ما لم تنقل إليه في مائها الطبيعي الأصلي، وإنما بعد التبيئة فحسب يمكن تبديلُ مائها تدريجياً وتعويدها على شروط الحياة في الحوض الجديد». ولئن كان نصّ طرابيشي رمزياً في دلالته غير أن ما يعنيه بالتبيئة تلك الثقافة التي تكون مستعدةً لاستقبال المفهوم الحيّ «الديمقراطية» والذي يجرّب كثيراً من دون ملل، ويمتطى كثيراً، ويستغل للمصالح الأيديولوجية والديكتاتورية والطغيانية والأصولية.
وبالرجوع إلى وجوه النقض المطروحةِ من البعض للعلاقة بين شرط الثقافة المجتمعيّة ونجاح الصيغة الديمقراطية يباغتنا النموذج الهنديّ في الديمقراطية، وهو نموذج يعتقد طارحه أنه محرجٌ جداً وينقض شرط البيئة الثقافية للصيغة الديمقراطية، غير أن درس التجربة تضعنا أمام الوجه الآتي للديموقراطية الهندية.
في كتابه «في ثقافة الديمقراطية» يكتب جورج طرابيشي عن الحال الهندية وسبب بقاء صيغتها ماثلةً، على رغم افتقارها للشروط اللازمة لنجاح نموذجها الديمقراطي ما خلاصته: «الهند عرفت أشكالاً ثابتةً ومتقلّبةً من الديمقراطية. شكل «البرلمانية الكولونيالية» عرفته الهند منذ أن أقرّ المستعمر البريطاني تطبيق المبدأ الانتخابي في الهند عام 1882 ليحدد سمةً للديموقراطية الهندية هي «ديمقراطية المثاقفة»، وتستمد الديمقراطية الهندية أحد مقومات بقائها من وجود سلطاتٍ مضادة وإحدى هذه السلطات الولايات الاتحادية التي تتشكل منها الدولة الهندية، الاتحاد الهندي يتألف من 25 ولايةً، وكل ولايةٍ تكاد تكون دولةً قائمةً بذاتها، وغالباً ما تكون متمايزة باللغة والأبجدية والإثنية.  التهديد الأكبر الذي يواجه تجربة الديمقراطية في الهند هو صعود مدّ الأصولية الهندوسية، والمفارقة أن الخطورة التي تمثّلها هذه الأصولية على الديمقراطية الهندية لا تكمن في كونها معارضةً لها بل على العكس في كونها حاضنةً لها».
فرق بين بقاء الديمقراطية الهنديّة وبين نجاحها. ذلك أن التنمية لا تأتي بالضرورة من تجربة الديمقراطية. دول غير ديمقراطية كثيرة تؤثر على اقتصاد العالم، كما أن الكثير من الدول الديمقراطية هي عالة على العالم. تجربة الهند لم تلغ شرط الثقافة ونمو الاقتصاد ونضج التعليم وإنما أثبتته بدليل تهديد الأصولية الهندوسية للديموقراطية الهندية.
أصوليو العرب والمسلمين يحاضرون للعالم عن الديمقراطية، بينما لن يجروا لبلدانهم إلا ديمقراطية «اختلاف الوجوه»، و«جرّ الصناديق»… والخراب.
* كاتب سعودي