تختلف بدايات الصباح حين نستهلها بلذة مستلهَمة من طاقة إيجابية قادمة من إحدى مرئيات التنمية البشرية وحقولها، أو المحفزات الحاثة على التخطيط وتنظيم الوقت والسمو بالذات نحو مسارات أكثر تألقاً وعوناً للإنسان. 
وفي ظل الكم الهائل من التحديثات الحافة بمناحي الحياة، يحاول الإنسان ترتيب أولوياته، واستشراف مشاريع، غارساً آمال عنانها في السماء. وقد يبدو الحديث عن إصلاح شيء بحجم هذا الكون -مثلاً- كلاماً عبثياً نابعاً من فورة إرادة ستقف متجمدة عند استيعابها حجم التحديات التي تنتظرها. ويذكر في هذا السياق أن الفيلسوف السويسريّ جون بياجي يقول عن المنهج البنيوي التكويني إنه «طريقة بحث في الواقع، ليس في الأشياء الفرديّة، بل في العلاقات بينها». وقياساً عليه، أليس هذا البناء الضخم المترابط والمتشابك (الكون) يضم سلسلة من المحتويات تعود في أصلها جميعاً إلى الذرة قبل أن تتحول في نهاية رحلة طويلة إلى المجرة؟ 

إن الوصول لقوة إنسانية كفؤ تكافح من أجل إصلاح واقع كبير ومترامي الأطراف، يحتاج قوةً كامنةً في ذاته من خلال نفض غبار النمطية وتنقيح الموروث برمته، والانتقال نحو حالة من إصلاح الإرادة وتتبع صيرورة محطاتها القادمة. ويمكن القول بأن العالَم اليوم بحاجة لحالة من «الفردانية الإصلاحية»، والتي تتجاوز ما للفردانية في التفسير الفلسفي والاجتماعي من معانٍ تقتضي صناعة القرار الشخصي من منطلق المنفعة التي لا تعتبر قانون الدولة أو ظرفية المجتمع وإملاءات الدين، بل إن الفردانية المطلوبة هي «فردانية أخلقة» تحث على صناعة الإرادة الصادقة مع الذات بحيث تعترف بنقاط الهشاشة الفكرية أو الثقافية أو الأخلاقية وتعمل على إنضاجها من خلال الموارد والسبل السليمة، بحيث ترسم صورة متجانسة ومتناغمة مع النتاج الإنساني وبخصوصياته هوياته وتشريعاته، يدخل من خلالها الإنسان في تناغمية إنسانية خلاقة ونقية في طرحها.
ويبدو مشروع إصلاح الإنسان لذاته، محاولة متقوقعة على ذاتها، من حيث بعدها عن السياق العملي والتطبيقي الملامس للواقع الإنساني، وصعوبة تحقيق «العدوى الإيجابية»، وبخاصة لدى الفئات المكونة للقناعات، حيث تعتبر الأخيرة من أكثر الرواسخ الفكرية والثقافية والنفسية التي يصعب تحريك مرسى العقل عنها، لكن ذلك لا ينطبق إلا على الفئة التي تبدو أكثر خوفاً من التجربة والمغامرة والاكتشاف. ففي تصور مشهد بسيط لعرض رأيك وتفاعلك الذي تكاد من سطوته تقفز عن الأرض في محاولة إثباته وتأكيده، وأنت في مقتبل العشرينيات من عمرك، يكاد يجلب لك نوبةً من الضحك إذا ما تذكرتَه وأنت في أربعينيات عمرك، مما يعني أن القناعة لا تعكس ثبات الفكرة بقدر ما تعكس محدودية أفق التفكير، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، أي أن التغيير متاح، لكنه مرهون بقدرتك على تجاوز الركام الذي ترسّخ في النفس وبات يشبهها. 
إن التغيير هو الثابت الوحيد على وجه هذه البسيطة، وهو المحرك الذي يدفع معه بقوة الأجيالَ المتتابعة نحو التطور والازدهار، وهو بذاته الذي يحقق ثبات المصان وصون الثوابت، لا سيما إذا بقي ذلك التغيير في معناه ومدلوله بعيداً عن التحوير والتزييف والانحراف. وهذا كله يقودنا ليقين متربع على عرش الفهم، بأن التغيير البسيط في أعيننا هو بداية خروج فوج إنساني حضاري من شرنقة طال سباته بين طياتها، وتحقيق لقاء الفرد مع ذاته التي تحمل فسيفساء رائعة مثل باقي بدائع صنع الخالق في الأجرام السماوية والدر الكامن في أحشاء البحر. 

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة