انتقل التعليم الحديث من الكتاب الورقي إلى الجهاز الإلكتروني. لم يعد هناك لوح أسود أو أخضر في الأقسام المدرسية. ولم تعد هناك ضرورة موجبة لاستعمال الطباشير للكتابة. بل أيضاً تراجع الاعتماد على القلم والورق إلى حد كبير، وأصبح استخدامهما دليلاً على عدم مواكبة العصر الحديث.
هذا الواقع بدأ يتغيّر الآن، فالمؤسسات التربوية في العالم، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة، قطعت أشواطاً باتجاه تشجيع العودة إلى الورقة والقلم لتسجيل الملاحظات والأفكار بدلاً من الاعتماد على الأجهزة الإلكترونية المحمولة. فرض بعض المدارس في الولايات المتحدة على الطلاب العودةَ إلى استخدام القلم والورق. وكذلك فعلت السويد التي تشجّع الآن العودةَ إلى الكتب الورقية المطبوعة بعد أن ذهبت بعيداً في تشجيع الاعتماد على النصوص في الحواسيب المحمولة.
كان التخلي عن الكتب المطبوعة وعن أسلوب تسجيل الأفكار والملاحظات في الصفوف المدرسية بالقلم والورقة يعكس التجاوب مع التحوّلات الإلكترونية للعصر الحديث. لكن علماء الاجتماع وعلماء النفس، وكذلك أساتذة التعليم، أدركوا الآن فوائد، بل ضرورات العودة إلى الكتب الورقية وإلى القلم والورق.
قبل حوالي ألفيين وأربعمائة عام رفع الفيلسوف اليوناني سقراط الصوتَ ضد انتقال آلية التعليم من الاستماع والاعتماد على الذاكرة إلى التسجيل بالقلم، واعتبر أن التخلي عن الذاكرة يضعفها ويعطّل وظيفةً أساسيةً من وظائف الدماغ.. ذلك أن ما يدخل إلى الذاكرة عبر الاستماع يبقى فيها حيث ينمو ويتوالد، أما ما يُكتب على الورق فإن مصيره يكون مصير الورق، أي التلف والضياع. كان هناك اعتقاد بأن قدرة الذاكرة الإنسانية على الاستيعاب هي قدرة غير محدودة، وأن المعلومات المتراكمة في الذاكرة تتلاقح وتتوالد، أما تلك التي تُسجّل على الورق فتصبح جزءاً من الورق.. ومن ثم جزءاً من مصير الورق.
ومن حسن الحظ أن اليونانيين الأوائل لم يأخذوا برأي سقراط، وإلا لما كان وصلنا هذا الكمّ من العلوم والفلسفة التي أنتجتها الحضارة اليونانية.
وعلى أساس هذا المقياس يمكن أن يُنظر اليوم إلى الجدل المتصاعد حول العودة إلى القلم والورقة لتسجيل الملاحظات التعليمية في المدارس متعددة المستويات، وبين المضي قدماً في الاعتماد على الآليات الإلكترونية الحديثة. لقد منعت مدارسٌ عديدة في الولايات المتحدة طلابَها من استخدام الحاسوب الشخصي الذي تحوّل –أو كاد- إلى عقل منفصل للطلاب.
ومع ذلك، لا يزال الجدال العلمي في بداياته، إلا أن كثيراً من الخبراء في الشرق والغرب أدركوا من خلال التجارب ومن خلال الوقائع أن الاعتماد على الحاسوب الإلكتروني في التعليم وفي الدراسة أعطى نتائجَ دون المستوى الذي كان يعطيه الاعتماد على القلم والورقة.
ومع أن الأمور لم تُحسم بعد بشكل نهائي، فإن التخلي عن القلم والورق بدأ يتراجع، وبسرعة ملحوظة، في العديد من المجتمعات المتطورة.
ولا يختلف اثنان على أن قدرة الجهاز الإلكتروني على حفظ المعلومات تفوق قدرة العقل الإنساني، لكن عملية توالد الأفكار وتلاقحها واستنباط الجديد منها عملية إنسانية تتوالد في العقل الإنساني وتنبثق منه.
ومن المعروف عن الإمام علي كرّم الله وجهه أنه قال: « ربِّ مَن أعطيته العقل ماذا حرمته؟ ومَن حرمته العقل ماذا أعطيته؟».
*كاتب لبناني