يعلو صوت التكبيرات ويتجلى منظر اصطفاف المصلين بالشوارع والممرات وبين الأشجار وبالمساجد ليزخرف صورة مبهرة للمجتمع المسلم في ألبانيا، قد يبدو منظراً مألوفاً يعلوه شيء من الخشوع، وسنة يقوم بها المسلمون صباح كل عيد في دول العالم كافةً، ولكن الذي يستجدي العواطف ويستحضر الذهول والهيبة، أن يسطر المسلمون بأجسادهم خطاً متراصاً متماسكاً، كالذي شدني رؤيته على إحدى القنوات الأوروبية، إذ يشكل المسلمون فيها ما يزيد عن 70% من سكانها، في ألبانيا خاصةً، الدولة العلمانية، التي شهد المسلمون على أرضها سوداوية شيوعية ماركسية أكثر من ماركس نفسه، منشبةً أظفارها وممزقةً رموز الإسلام ومنتهكة شعائر المسلمين بل وقامعة وجود أي من مظاهرها بلا استثناء.
ما وصل له الوجود الإسلامي في ألبانيا اليوم يؤطر صورة بارزة في التاريخ، وبخاصة بعد ما تجرعه مرغماً لفترة لا بأس بها من اضطهاد شيوعي، ومما تركه ذلك النظام من تأثيرات في مرحلة «ما بعد الشيوعية»، إذ أن حالة الخنق التي عاشوها، ضيقت وقمعت حق المسلمين من فسحة العلم والمعرفة حتى بأبسط أمور دينهم، وأستذكر هنا مقابلتي في مصر لمفتي ألبانيا الأسبق صبري كوتشي – رحمه الله – الذي قضى وقتاً طويلاً من عمره خلف قضبان المعسكر الشيوعي، رغم ما أكنه من احترام لشخصه الموقر، إلا أن ما أخبرني به يضيق بي ذرعاً كلما التفت إلى خريطة ألبانيا، فلكم حرية التخيل لأي حدٍ وصلت حبال التضييق على عنق الحريات للمسلمين حين نعلم أن العبادات المفروضة بحد ذاتها منعت، والمساجد دمرت، والحجاب أصبح يستدعي تغريم من ترتديه، والأطفال في المدارس خصص لكل غرفة صفية، من يتتبع أخبار أداء العبادات لوالديهم من خلالهم فلا حرية بالصلاة ولا حتى الصوم، حتى أن الكتب والمصاحف جمعت لتحرق على أيدي الشيوعيين، فضلاً عن مراقبة أنوار البيوت وقت السحور لتقديم من يعرف بأنه يصوم للمحاسبة! ومن هذا كله يتضح بأن حقبة الشيوعية مثلت في ذلك الوقت سلاح وأد شاملا للدين الإسلامي في ألبانيا، وتجفيفاً لمنابعه، وقد لا يذكرنا هذا إلا بمحاكم التفتيش التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية وقتئذ ضد بيوت المسلمين في الأندلس.
سقوط الشيوعية قبل 29 عاما تقريباً، أدى لتفتح أعين المسلمين وتوجيهها إلى العالم بنظرة أكثر اتساعاً، ولكن لم تسنح الفرصة لمسلمي ألبانيا، لأخذ نفس عميق بما فيه الكفاية، فألبانيا حالها حال الدول الأخرى أضحت تعاني من خطر براثن التطرف الذي يسعى لغرز أشواكه المسمومة دون إقامة أدنى اعتبار للإنسان أو الدين أو التاريخ، من خلال الاستغلال بأشكاله سواء الفكري أو الروحي أو الثقافي، وتزوير وتحوير مفاهيم الدين لخدمة مصالحهم.
الانتقال المرحلي الذي شهده مجتمع ألبانيا المسلم، من معسكر الشيوعية إلى مواجهة قوى التطرف والظلامية يُعرّض ذلك المجتمع للكثير من الاحتمالات التي لا أحبذ ذكرها، في حال سُلمت شؤونهم الدينية لكل من أراد أن يدلي بدلوه، وبهذا المقام قدمت المشيخة الإسلامية في ألبانيا جهوداً تنم عن رؤيتها السديدة، ورغبتها المخلصة لصون الأجيال الصاعدة وبخاصة في ظل التعطش المُلح لفهم الدين أكثر والعيش في بحبوحة السلام والتعايش الذي حث عليه الإسلام، واعترفت به الحكومة الألبانية في دستورها، احتراماً لهذا الدين وكافة الأديان الأخرى.
إن لألبانيا فرصة جوهرية بأن تكون جسراً رابطاً بين أوروبا والعالم الإسلامي، من خلال النهوض بدور مجتمعها المسلم وتعزيزه في ظل حكومتهم، فالتطوير بحاجة لتطور، والأخير لا يكون دون احترام منظومة العقد الاجتماعي في الدول، وإشاعة التعايش والسلم المجتمعي الذي يتطلب بداية تحقيق أمن فكري ومعرفي وديني للأفراد، فالخروج من أسوار الأفكار الشيوعية أو التطرفية المظلمة يبدأ من الفرد نفسه، بتوفير اكتفاء معرفي لأمور دينه ودرايته الواعية لحقوقه، وتأدية واجباته كمواطن في بلده التي يعيش بها، وتحقيق المرجو من خلال المدارس وتوفير الكتب المترجمة والفضائيات الموجهة التي تعنى بقضاياه، ووسائل إعلام تعمل على إنضاج منظومته الفكرية، وإثراء ثقافته، وعين المقارن بين الماضي والحاضر تبشر بألبانيا نموذجاً لتخطي العقبات والبناء عليها من جديد للخروج بدولة قوية محصنة بأبنائها ضد أي «عامل خطر» داخليا كان أو خارجيا، فكل الاحترام للدول المثابرة و«رب ضارة نافعة»!