لم تشغل حروب التجسس والمعلومات المضللة العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي كما تشغله الآن الأخبار الكاذبة وحروب المعلومات السياسية وبرمجة التطبيقات لشنّ حملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لذا، اطلع كثيرون على تاريخ الحرب الباردة لمعرفة تداعيات هذه الظاهرة. فعلى أية حال، تعتبر روسيا، التي كانت خصماً لدوداً للولايات المتحدة في الحرب الباردة، المشتبه به الرئيسي هذه المرة أيضاً في أكثر حملات التضليل إثارة للجدل في الوقت الراهن.
ورغم ذلك، ثمة أوجه شبه كثيرة بين ساحتنا الإعلامية الراهنة، التي تعتبر حاضنةً ومغذيةً لمعلومات مشكوك في أمرها، وبين الساحة الإعلامية في القرن الثامن عشر. وحروب المعلومات في تلك الحقبة لا تقدم وجهة نظر فحسب، وإنما تقدم حلّاً للانقسامات السياسية التي تسعى حملات التضليل لاستغلالها، ألا وهو: الحاجة إلى تجديد التأكيد على التثقيف والعودة إلى السلوكيات المتجرّدة في الساحة العامة.
وفي عالم الهواتف الذكية والاتصال الدائم عبر شبكة الإنترنت، من الصعب تخيل أن وسائل الإعلام المطبوعة، مثل المنشورات أو الصحف الورقية، كانت أسرع طريقة لنقل المعلومات المكتوبة. لكن في بداية القرن السادس عشر في أوروبا، أصبحت المنشورات هي الطريقة المفضلة للتأثير السريع في الرأي العام وتوجيه الأحداث التاريخية.
لكن لم تصل المنشورات الورقية إلى ذروة تأثيرها السياسي إلا في القرن الثامن عشر. فعندئذ أضحت المنشورات ضرورية لتشكيل الرأي العام إلى درجة أن القوى السياسية الفاعلة دأبت على استغلالها في حروب معلومات سرية ضد أعدائها.
وأثناء الثورة الأميركية على سبيل المثال، وظّفت الحكومة البريطانية والثوار الأميركيون سرّاً جواسيس و«عملاء» آخرين في الجمهورية الهولندية لتوجيه الرأي العام الهولندي بشأن قضية الثورة الأميركية. وكان كلا الجانبين يأملان في كسب تأييد سياسي، وربما أكثر أهمية من ذلك، امتيازات من المؤسسات المالية والتجارية الهولندية. وجعلت الصحافة المطبوعة الحرة وانتشار التعليم في هولندا من المنشورات أدوات فعّالة إلى حد كبير.
لكن الأمر تجاوز ذلك الحد. ففي سعيهم للحصول على تأييد الهولنديين، استغلّ كل من الأميركيين والبريطانيين حالة الاستقطاب السياسي في المجتمع الهولندي من خلال نشر مواد تحريضية بشأن النضال الثوري. وتم إرسال روايات متحيزة بشأن الحرب في أميركا ومنشورات تحريضية إلى الهولنديين لتأجيج النزعات المؤيدة والمعارضة للبريطانيين.
وسلّطت تلك الأنواع من المنشورات المثيرة للجدل الضوء على حالة الاستقطاب القائمة بالفعل في المجتمع الهولندي، وأرست أساساً للثورة الوطنية الهولندية خلال ثمانينيات القرن الثامن عشر.
ومثلما كان سلفنا في القرن الثامن عشر، نعيش اليوم في عالم نتلقى فيه أخباراً موجّهة للرأي العام من خلال وسائل تكنولوجية حديثة، تجعل منّا أهدافاً أساسية لغايات شريرة. وفي الوقت الراهن، تزدهر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية المدفوعة في بيئة تنافسية على «أخبار» تهدف إلى إسعاد جماهيرها سياسياً، ودفع معدلات المشاهدة إلى الارتفاع، وتشويش الاختلاف بين صحافة الرأي والأخبار.
وبالنظر إلى أنه من المستبعد حدوث أي تغيير في تلك الاتجاهات الإعلامية قريباً، يتبادر السؤال: كيف ندافع عن أنفسنا ضد التضليل الذي يقوض ثقتنا في نظامنا السياسي والصحافة والبحث عن الحقيقة بصورة عامة؟
وقد كانت لدى الثوريين في القرن الثامن عشر وجهات نظر حول كيفية مواجهة التضليل. وبدلاً من تأييد الرقابة، أكدوا تأكيداً شديداً على أهمية الصحافة الحرة.. تلك الحرية التي استغلوها بنجاح منقطع النظير ضد بريطانيا أثناء الثورة. وعلى النقيض من الأنظمة الأوتوقراطية التي تحابي سيطرة الحكومة على المعلومات، يمتلك كل فرد في الديمقراطية الليبرالية أدوات لمواجهة التضليل. وحتى الآباء المؤسسون للولايات المتحدة، الذين لم يتورّعوا عن المشاركة في حروب المعلومات خلال عصرهم، آمنوا بأن الصحافة الحرة كانت ضرورية للحفاظ على الجمهورية التي أسسوها.
وعلاوة على ذلك، شدّد المؤسسون على أهمية المؤسسات التي تحتضن مواطنين مثقفين ومحصنين بحالة تشكيك صحية تجاه المعلومات التي يتلقونها. ومن هذا المنطلق، يمكن للعلوم الإنسانية في الوقت الراهن أن تلعب دوراً محورياً في تخليق لقاح مضاد للتضليل. وعلى المدارس والكليات والجامعات أن تقضي مزيداً من الوقت في تثقيف الأجيال المستقبلية بشأن تشابكات المجتمع والأفكار المتنوعة والمصالح الُمشكّلة للمعلومات التي نتلقاها.
ماتيس تيلمان*
*باحث في الدراسات الأميركية بمركز ماكنيل التابع لجامعة بنسلفانيا
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»