إلى جانب صعود المرأة والتوسع في الحقوق المدنية، كان أكبر تحول اجتماعي في ربع الألفية الأولى من التاريخ الأميركي هو انتصار الزراعة المعاصرة على المجاعات والسعي المضني والمستمر من أجل تحقيق اكتفاء ذاتي من الغذاء، والذي كان حقيقة مهيمنة على حياة البشر على مرّ التاريخ. ومعظم أولئك الذين سبقونا عاشوا معظم حياتهم في الحقول. وقبل أكثر قليلاً من قرن مضى، كان ثلث الأميركيين جميعاً مزارعين.
وقد كانت الثورات المتعاقبة في الميكنة والبستنة والتكنولوجيا الحيوية نعمة كبيرة، فقد مكنت نسبة صغيرة من الأميركيين، أضحت الآن أقل من اثنين في المئة، من إطعام بقية مواطنيهم وكثير من سكان العالم. وحررت مواهب بشرية لا تُحصى لابتكار المعجزات الأخرى التي نتمتع بها. والآن تنفق الولايات المتحدة حصة من دخلها على الغذاء أقل بكثير من أي مجتمع آخر على الإطلاق.
غير أن هذه النعمة، مثل معظم النعم الأخرى، لم تأت بلا نقمة. فكثير من المواهب القيمة، ورأس المال الاجتماعي الثمين، قد تقلّص مع شريحة الأميركيين الذين يعيشون ويعملون في الأراضي الزراعية.
وأثناء عملي لمدة عقد كامل في منصب منتخب بولاية إنديانا، كنت أبيت أثناء سفري في أنحاء الولاية في المنازل بدلاً من الفنادق. وبسبب الجغرافيا، وربما الاختيار الشخصي، قضيت زهاء تلك الليالي البالغ عددها 125 ليلة مع أسر مزارعة. وهناك شاهدت قيماً قلما يراها المرء في هذه الأيام؛ لاسيما الكدّ في العمل والمهارات اليدوية العملية والأخلاقيات المجتمعية، المنسوجة بإحكام في نسيج الحياة اليومية.
وقد شاهدت مراهقين وربما أشقاء صغار السنّ يستيقظون في الخامسة صباحاً لإطعام الماشية أو للقيام بأعمال منزلية أخرى قبل الاستعداد والتوجه إلى المدرسة. وقد كان من الممتع أن أعود إلى منزلي وأخبر تلك القصص لبناتي الأربعة اللاتي تقتصر فكرتهن حول الأعمال الصعبة على تجهيز منضدة الطعام وغسل الصحون!
وفي المعارض الريفية، كنت دائماً أطلب أن يصطحبني في الجولة المتطوعون الشباب من المناطق الريفية. فمعظم أولئك الشباب ربوا الماشية وأطلعوني على مشاريع فنية وعلمية وأخرى لخدمة المجتمع، بفخر خاص ناجم عن تلك الجهود الفردية الإبداعية والشاقة.
وبعد تبادل أطراف الحديث مع بعض من أعضاء منظمة «مزارعي أميركا المستقبليين» في مدينتهم بشمال غرب إنديانا، كنت أتحدث إلى صديقة محلية بشأن الشخصيات المنضبطة والمواقف الهادفة التي ينشأ عليها الأطفال في المناطق الزراعية. فقالت: «بالتأكيد، فقد كنت أتحدث إلى القاضي الجزئي في الدائرة الموجود منذ أكثر من 20 عاماً، وعندما سألته عن عدد أفراد منظمة مزارعي أميركا المستقبليين والمنظمات المماثلة، الذين خضعوا للمحاكمة على يديه، أجابني: لا أحد على ما أذكر!».
وفي مزرعة عائلة «جيربر» بالقرب من مدينة بوسطن في إنديانا (وعدد سكانها 130 شخصاً)، علمت بشأن ذلك العام الذي تعرّض فيه «دوغ» الأب لحادث قطار كاد أن يقتله أثناء محاولته إزالة آثار الركام الذي تسببت فيه العاصفة عن السكة الحديد. وقال «دوغ»: «عندما عدت إلى المنزل بعد أسابيع من الغيبوبة، كان أول شيء شاهدته أن جيراني زرعوا محاصيلي وأطعموا ماشيتي لكي تجد أسرتي دخلاً في ذلك العام»، مضيفاً: «لم يتركوني حتى أسدد ثمن الوقود».
وفي معرض ولاية «إنديانا»، المنعقد حالياً في داخل أحياء مدينة إنديانابوليس عاصمة الولاية، يمكن للأطفال في المناطق الحضرية أن يشاهدوا بصورة شخصية ولادة الماشية. وكنت قد سألت فتى وصل إلى المعرض لتوه في حافلة مدرسية من المدينة: «هل تعرف من أين يأتي الحليب؟»، فأجابني قائلاً: «بالتأكيد: من متجر البقالة». لكن بعد بضعة ساعات، عرف إجابة أفضل، وربما بات لديه شعور بالامتنان تجاه العمل والمهارات المطلوبة لملء متاجر البقالة.
لقد اعتقد توماس جيفرسون بأن الديمقراطية لا يمكن أن تنجح إلا في مجتمع المزارعين، الذين يعيشون في وحدات سياسية صغيرة، ومفوضون في مجتمعهم وعازمون على الدفاع عن حريتهم ضد انتهاكات الحكومة. ونأمل أنه كان مخطأً في اعتقاده، وأنه يمكننا إدراك المميزات والقيم التي جعلت من المزارعين والمزارعات مواطنين صالحين، وأن نحافظ عليها.
وبالطبع، لن يعود النسيج الثقافي الذي جلبته النشأة الزراعية إلى المجتمع من خلال الإحصائيات. لكن هناك طرقاً أخرى بالإضافة إلى المعارض في الولاية لكي نعرض الشباب في العصر الحالي إلى قيمه وفضائله. ولعل العمل في وظائف صيفية زراعية لا يزال من الخيارات المتوافرة من حين إلى آخر كبديل لمخيمات كرة القدم. وفي بحثها الدائم عن التنوع، على الجامعات ألا تغفل الامتيازات التي يمكن أن يجلبها الطلاب من المناطق الريفية إلى زملائهم في المدن الكبرى والضواحي.
ومن المحزن أن الفجوة التي اتسعت بين الأميركيين في المناطق الريفية ومواطنيهم في المناطق الحضرية بصفة عامة، بدت واضحة في ثقافتنا الشعبية وساحتنا السياسية. وسيكون من المفيد حقيقة أن نقدم تقديراً حقيقياً وبعضاً من الاقتداء في الوقت الراهن، فهناك كثير من الأمور التي يمكن أن نتعلمها في الحقل، ليس أقلها التسامح.
رئيس جامعة «بوردو» والحاكم السابق لواية إنديانا
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»