يوماً بعد آخر تزداد خطورة الحرب التجارية على اقتصادات بلدان العالم، مخلفة الكثير من التداعيات التي تطال مختلف المكونات الاقتصادية، وذلك بسبب امتدادها لتشمل قطاعات جديدة ومؤثرة للغاية، إذ شملت مؤخراً القطاع النقدي والمالي ذي الانعكاسات الخطيرة على الاقتصاد الدولي، فبعد أن فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأسبوع قبل الماضي رسوما إضافية على واردات الولايات المتحدة من الصين ليضيف سلعاً بقيمة 300 مليار دولار لجأت الصين إلى رد فعل من نوع آخر، وذلك بتخفيض قيمة عملتها الوطنية «اليوان» لتتجاوز 7 يوانات للدولار، مما أغضب الرئيس الأميركي لمعرفته بتداعيات هذه الخطوة الصينية على القدرة التنافسية للسلع الصينية في الأسواق الدولية.
لو اقتصر الأمر على العلاقات بين البلدين في دخول حرب العملات ضمن الحرب التجارية لهان الأمر، إلا أن ذلك سرعان ما وجد له انعكاسات سريعة ومؤثرة على الأسواق الدولية، فتراجعت البورصات بنسب كبيرة، وانخفضت أسعار النفط بنسبة 15% لتصل إلى مستويات متدنية ليبلغ مزيج برنت 56 دولاراً للبرميل، في حين طالب الرئيس ترامب بنك الاحتياط الفيدرالي بتخفيض أسعار الفائدة للتأثير باتجاه خفض سعر صرف الدولار تجاه العملات الأخرى.
إذن المؤشرات تدل على أن هناك تصعيداً خطيراً في الحرب التجارية ربما يمتد إلى قطاعات أخرى ويؤثر على العلاقات السياسية والعسكرية والاستراتيجية، خصوصاً وأنه في الوقت الذي ملك فيه الرئيس الأميركي زمام المبادرة وبقوة في ما يتعلق بالحرب التجارية مع الصين، فإن موقفه في استخدام الأدوات النقدية ضمن هذه الحرب يبدو ضعيفاً، فالحكومة الصينية تملك قرار التحكم في سعر العملة والأدوات المؤثرة فيها، بما في ذلك أسعار الفائدة، بينما يفتقد ترامب مثل هذه الأداة المهمة للغاية، فالسياسة النقدية في الولايات المتحدة مستقلة عن الإدارة الحكومية، ويحددها مجلس محافظي بنك الاحتياطي الفيدرالي، مما أوجد مؤخراً فجوة بين البيت الأبيض والبنك الفيدرالي الذي يرفض اقتراحات الرئيس بتخفيض أسعار الفائدة.
بدوره يحاول ترامب زيادة الضغوط على محافظ البنك الفيدرالي «جيريمي باويل» لتخفيض أسعار الفائدة مهدداً بإقالته وبتغيير مجلس المحافظين، مما دعا أربعة من محافظي البنك السابقين إلى الدعوة للمحافظة على استقلالية قراراته بعيداً عن البيت الأبيض، مما يضع الرئيس ترامب في وضع حرج للغاية ويقلل كثيراً من قدرته على مواجهة التنين الصيني في هذا الجانب من الحرب التجارية، ويمنح الصين قوة إضافية ستكون محل مساومة ضمن الحرب التجارية الشاملة.
وإضافة إلى ذلك تمكنت الصين من إيجاد منافذ تصديرية بديلة لصادراتها وبصورة سريعة، حيث ارتفعت هذه الصادرات في شهر يوليو الماضي بنسبة 3.3%، كما أن شركة «هواوي» الصينية، والتي تأثرت بشدة من الحرب التجارية، وفقدت جزءاً مهماً من أسواقها الدولية سرعان ما أوجدت البديل عن أنظمة التشغيل الأميركية بإطلاقها الأسبوع الماضي نظام تشغيل للأجهزة الذكية خاص بها أطلقت عليه اسم «هارموني»، والذي يمكن استخدامه في معظم الأجهزة الذكية، بما فيها نظام «أندرويد»، حيث يمكن لمن يملك هذا النظام في نطاق شركة «جوجل» الانتقال إلى نظام «هارموني» بسهولة.
هذا يشير إلى أن الاقتصاد الصيني أضحى من القوة بحيث يستطيع المنافسة، ويقبل التحدي مع الاقتصاد الأميركي، وذلك على الرغم من أن خسائر الصين كبيرة للغاية من جراء هذه الحرب التجارية، وهو ما ينطبق أيضاً على الولايات المتحدة وبقية بلدان العالم، فالدول النفطية ستتكبد خسائر إذا ما استمر سعير الحرب التجارية، والذي سيؤدي دون شك إلى المزيد من التباطؤ في الاقتصاد العالمي، وبالتالي تدني مستويات الزيادة في الطلب على النفط، وهو ما سيؤدي بدوره إلى المزيد من الضغوط على الأسعار التي يمكن أن تتدنى إلى مستويات منخفضة أخرى، وذلك رغم مساعي دول «أوبك +» لتوازن السوق للمحافظة على معدلات الأسعار الحالية.
يبقى هناك ضوء في نهاية النفق، وهو أن شمول الحرب التجارية للقطاع النقدي ربما يؤدي إلى توازن القوى ضمن هذه الحرب والذي كان يميل لصالح الجانب الأميركي، إذ يمكن لعملية التوازن هذه أن تؤدي إلى وجود مساومات لإيجاد حلول وسط تجنب العالم الكثير من المصاعب التي يمكن أن تترتب على استمرار هذه الحرب العبثية.
*مستشار وخبير اقتصادي