يعيش العالم اليوم عصر «سباق تسلح» ديني ولغوي محموم، فالغرب لا يكل ولا يمل من محاولة فرض لغاته على العالم كله. كذلك، يحاول علماء اللغة جاهدين تعقب اللغات ليردوها إلى أصل واحد مبسط يرضاه العالم في محاولات باءت وتبوء بالفشل، بسبب انعدام الثقة في النوايا الغربية من جهة، وتمسك الشعوب بهوياتها التي تمثل «اللغة الأم» لبنتها الأولى من جهة أخرى. وفي هذا السياق، فإن الصراع على «السيادة اللغوية» في العالم لا يهدأ! وبدلا من أن تحتل اللغة العربية مكانتها الطبيعية كلغة ثانية في العالم، حلت الإنجليزية، لأسباب معروفة وربما مفهومة، في الموقع المتقدم المتفوق. واحتلت اللغة العربية التي نحتفل بيومها العالمي في الـ18 من ديسمبر كل عام، المرتبة الخامسة بين لغات العالم، والسابعة من حيث الاستخدام في مواقع التواصل الاجتماعي وفق آخر الإحصاءات العالمية، في حين أصبحت الإنجليزية اللغة السائدة كونياً على الشبكة العنكبوتية، وهي تزاحم العربية في مدارسنا وجامعاتنا وتهدد لغتنا الأم في عقر دارنا.
علماء اللغة الإنجليزية بدورهم لا يدخرون جهداً لتطويرها وتبسيط استخدامها حتى تنتشر أكثر فأكثر، وهم فزعون من تزايد مفرداتها التي وصلت إلى ما يقارب ربع مليون كلمة، ويعملون حثيثاً على اختصارها. أما نحن فقد توقف دورنا عند تكديس وتقديس كل ما جاء في اللغة العربية وعنها، مهما كان شاذاً أو منقرضاً في معاجم موسوعية ضخمة، لتتضخم مفردات اللغة العربية فتصل أكثر من أربعة ملايين مفردة.. بإفراط وإغراق قد يهددان لغتنا بالانقراض!
معظم لغات العالم تتطور كل بضع سنين، إلا اللغة العربية فهي «اللغة الوحيدة التي لم تتطور قواعدها منذ 1500 عام، رغم أن الحياة فرضت أنواعاً من التطور». هكذا قال الكاتب شريف الشوباشي في كتابه: «تحيا اللغة العربية ويسقط سيبويه»، وكانت دعوته لتبسيط النحو ومفردات اللغة العربية قد أثارت جدلا واسعاً في مصر وصل حد المطالبة بمصادرة الكتاب. ومع ذلك، علينا الاعتراف بأن الشوباشي أثار قضية حيوية يترتب عليها بقاء اللغة أو اندثارها، وهي قضية التفرقة بين لغة القرآن واللغة المتداولة. وهذه الفكرة ناقشها مفتي الديار المصرية في مؤتمر «لغة الطفل العربي في عصر العولمة» في مقر جامعة الدول العربية عام 2007، حيث دعا إلى التفرقة بين «قدسية اللغة» و«اللغة المقدسة»، وبالتالي فإن لغة القرآن الكريم ينبغي عدم المساس بقدسيتها والتسليم بما حملته من معان، أما باقي اللغة -غير المتعَهَّد بحفظها- فهي عرضة للتغيير والتطوير.
العديد من المجامع اللغوية والعلمية حذرت وتحذر من اندثار اللغة العربية التي اعتبرها تقرير «اليونسكو» لعام 2006 من اللغات المهددة بالانقراض! حتى أن بعض المفكرين يتحدثون (ربما بتشاؤم) عن موت العربية وانقراضها ونشوء لغة جديدة على أنقاضها، وهو ما قاله شبلي شميل في كتابه «فلسفة النشوء والارتقاء» (الجزء الأول)، وهو أيضاً ما يقوله جبور عبدالنور في «المعجم الأدبي»: «عندما تهجر اللغة اللسان بحالة من حالاتها، يظن الناس أن هذه اللغة أو تلك قد ماتت»، وهم في هذه الحالة ينظرون إليها وكأنها تطورت وأصبحت أرقى حالة مما كانت عليه في الماضي، كما حدث مع الإنجليزية الحديثة التي تشكلت على أنقاض إنجليزية العصور الوسطى منذ القرن السادس عشر مع بقاء حروفها اللاتينية دون تغيير، أي أن اللغة تتطور على أنقاض كلمات قديمة.
ومع وجود جهود متفاوتة تؤديها مجامع اللغة العربية في أكثر من بلد عربي، نتساءل: أما من نهاية لهذا التراجع الذي يلازم لغتنا، من خلال العمل بجدية من أجل الحفاظ على ثوابتها وإبقائها عربية نقية دقيقة الدلالة غير ذات عوج؟ ألم يحن الوقت لتطوير لغتنا الجميلة وتنقية المتداول منها من كل شاذ وغريب مختلق وربطها بلغة العصر والتحرر من القوالب المصطنعة وإطلاق العنان للغة الوجدان؟ ألم يحن الوقت لتعريب مصطلحات الاختراعات الجديدة (حتى المنتشرة منها بالعامية) بشكل منهجي سليم لمواكبة التطور التقني لغوياً؟ ألم يحن الوقت للعمل على الحفاظ على كياننا اللغوي والحضاري والديني، على مستوى الأفراد والمؤسسات، متحلين بالصبر والعزم والنية الصادقة، عبر التحدث في حياتنا اليومية ومن خلال وسائل الاتصال المتاحة بعربية سليمة نحوياً وبلاغياً واستخدام مرادفاتها الثرية عوضاً عن المصطلحات الأجنبية، والحد من خطر «العامية المحلية» التي بات يروج لها البعض، ويطالب بأن تكون لغة تعليمية؟
كما يتعين الحد من خطر اللحن والأخطاء النحوية في اللغة الفصحى التي يؤديها الخطباء والكتاب والمذيعون وغيرهم.. وذلك أضعف الإيمان! ويحتار المرء: هل اللغة العربية هي التي تستعصي علينا، أم نحن مَن نعصي ونتمرد عليها؟!