عشت في بلدي أكثر من عشرين عاما بعد تخرجي من الجامعة، أترقى من وظيفة إلى أخرى فلم أنقطع يوما عن العمل في شركة أو صحيفة ما، ولكن بالرغم من ذلك لم أستطع أن اشتري بيتا أو حتى شقة متواضعة، أما هنا في بريطانيا، فإنني وإن لم أكمل بعد عامين من العمل فيها فلقد تمكنت من شراء شقة أنيقة أستعد للانتقال إليها خلال أسابيع قليلة. فكيف حصل ذلك؟
لم تهبط عليَّ ثروة هائلة، ولم أكسب اللوتري، وإنما لسبب بسيط هو أن ثمة نظاماً بنكياً، اجتماعيا وقضائيا في بريطانيا لا يسمح بذلك فقط بل يشجع عليه، ولو استعرنا هذا النظام وطورناه بما يوافقنا فسوف يحدث طفرة عقارية غير مسبوقة في بلادنا، وتغيرا إيجابيا في نمط العيش وعلاقة المواطن بحيه، والموظف بوظيفته.
إنه نظام حياة لا يخص البريطانيين وحدهم وإنما هو مجرب بنجاح في كل الدول المتقدمة ذات الأنظمة الرأسمالية المعتمدة على اقتصاديات السوق بعيدا عن الوظيفة الشمولية للدولة والتي يقتصر دورها على المراقبة والتقنين بينما تترك لقطاع الأعمال أو ما يمكن تلطيفه بالقول "الرأسمالية الوطنية" ممثلة في شركات التطوير العقاري وهيئات الإقراض والبنوك الدور الأساسي في توفير السكن المناسب للمواطن قدر حاجته وقدرته، وكل المؤسسات المذكورة عادة ما تكون مساهمة عامة لا يملكها فرد فيمارس احتكاراً، تقع دوما تحت رقابة الدولة التي تضع تشريعات البناء والتطوير وعادة ما يقوم بهذا الدور مجالس محلية منتخبة، بالإضافة إلى البنك المركزي المنوط به ضبط وربط عملية الإقراض والتمويل وسعر الفائدة.
إن الدولة لا تستطيع أن توفر سكناً لكل مواطن، وقد حاول الشيوعيون ذلك فوفروا علبا إسمنتية أضحت شاهدا في البلاد التي ابتليت بهم على تخلف حقبة ماضية، ولكن "السوق الحر" يستطيع ذلك، وبلادي المملكة العربية السعودية ليست "دولة في مدينة" ترضي سكانها بالهبات، وإنما دولة مترامية الأطراف مع ملايين السكان ما أسرعهم في التكاثر، والأرقام تقول إن مدينة الرياض وحدها بحاجة إلى 409 آلاف مسكن جديد خلال العامين القادمين، ما يعني رقما تريليونيا تصعب قراءته لو ضربنا عدد الوحدات في الثلاثمائة ألف ريال المتواضعة وهي قيمة القرض المتاح من صندوق التنمية العقاري، الأمر الذي يعني أن مبلغ 9 بلايين دولار الذي أمر به سمو ولي العهد لدعم صندوق التنمية لن يوفر إلا 30 ألف وحدة سكنية فقط وهو نسبة بسيطة من المطلوب وبالتالي لا يوجد حل سوى اللجوء إلى آليات اقتصاد السوق الحر والتي تنعش الاقتصاد وتحركه وتستوعب الاستثمارات الحائرة بين المخططات العقارية في البراري والقفار والشركات المساهمة التي لم تتحقق أرباحا بعد إلا في سوق الأسهم.
يقول الخبراء إن المملكة من أقل دول العالم في نسبة تملك مواطنيها للعقار الذي يسكنونه، ذلك أن معظم السعوديين يسكنون في بيوت مسـتأجرة أو تعود ملكيتها للأب، ويعزون ذلك ليس لارتفاع قيم العقار فقط وإنما لانعدام آليات القرض المناسبة فالبنوك تقتصر بقروضها على من يستطيع ضمان القرض بعقار آخر، أو بكفالة ملزمة وهؤلاء في العادة ليسوا بحاجة إلى قرض، ومؤخرا أخذت البنوك تعرض قروضا لطائفة منتقاة من الموظفين "المضمونين" من العاملين في مؤسسات الدولة أو الشركات الكبرى، ويربطون عادة بين موافقتهم على القرض مع مقدار نهاية الخدمة التي يستحقها الموظف، ما يضيق رقعة المستحقين للقروض خاصة السكنية منها إلى طائفة محدودة جدا، وهنا لا يجوز اتهام البنوك بالتشدد أو لنستعر تعبيرا يساريا "الرأسمالية المتوحشة" فهي مؤتمنة على أموال أصحابها والنظام القضائي المحلي لا يعطيها الثقة الكافية لاستعادة مالها المقترض وأرباحه.
بينما في بلد مثل بريطانيا فإن توفر وظيفة وراتب كافٍ لتقديم قرض، والمعادلة أن البنك مستعد لإقراض الموظف بما يعادل أربعة أمثال إجمالي راتبه السنوي لشراء بيت، طالما أن الموظف الشاب قادر على توفير 20 في المئة من قيمة البيت كدفعة أولى. وهم متفقون هنا على شيء سموه "السلم الإسكاني" وهدف كل شاب يدخل سوق العمل أن يحتل موقعا من أسفل هذا السلم بحسب قدرته واحتياجه، كما أن البنك ومؤسسات الإقراض الإسكاني حريصة على مساعدة الشاب على وضع رجله في أسفل السلم، ذلك أن عملية الإقراض للسكن جزء أساسي من أعمال البنوك ومؤسسات الإقراض، وتصل قيمتها إلى تريليونات الجنيهات من دون قلق أو توجس.
سألت موظف البنك الذي صاغ عقد شراء بيتي وشرح لي الأدوات والبدائل المالية العديدة المتاحة لي عن نسبة عجز المقترضين عن السداد ما يؤدي إلى أن يضع البنك يده على العقار ويخرج المقترض المسكين وعائلته إلى الشارع، فقال لي إنها لا تتجاوز واحداً ونصف في المئة، إنها نسبة مدهشة عندما تقارن بنسب المتعثرين في السداد ممن يقترضون من صندوقنا للتنمية العقارية، رغم يسر القرض وكونه بدون فوائد، والغريب أنها تقريبا نفس النسبة في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية ما يعني أن الوصفة ناجحة وتستحق أن تستورد وتطبق عندنا.
أعود إلى السلم الإسكاني