لم يشفع لـ"جاري شروين،" الضابط السابق في وكالة الاستخبارات الأميركية في باكستان، تقاعده للمناداة عليه مجددا للانضمام إلى العمل الاستخباراتي في مهمة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها محفوفة بالمخاطر. فلم تمر إلا أيام معدودة على خلوده للراحة في منزله، بعدما قضى 35 سنة في الوكالة، حتى استدعي ليقود فريقا أميركيا من العملاء للذهاب إلى أفغانستان عشية الحرب على طالبان. والهدف هو ربط الاتصال مع قيادات التحالف الشمالي الأفغاني وتمهيد الطريق أمام القوات الأميركية التي ستدخل لاحقا. وبالطبع، لم تكن العملية سهلة، خصوصا بالنسبة لرجل هيأ نفسه للتفرغ لحياته الخاصة بعد سنوات حافلة بالمغامرة. لكن الخبرة الطويلة في مجال الاستخبارات التي يتمتع بها، لا سيما في باكستان، جعلت منه العميل الأوفر حظا لقيادة هذه المهمة وإحراز النجاح. وهو ما قرر توثيقه بدقة متناهية في كتابه الذي أراده أن يكون وثيقة عسكرية تؤرخ لمرحلة الحرب على أفغانستان، وبخاصة في مراحلها التمهيدية التي كان لها دور حاسم في إنهائها.
كان المسؤولون في وكالة الاستخبارات الأميركية يدركون جيدا أن جاري شروين عميل مخضرم يملك من الريبة والدراية ما يؤهله ليكون بمثابة رأس الحربة الذي يقود العملية في تلك الظروف الصعبة والمحيط العدائي. وبالفعل، قام شروين بالتسلل إلى داخل الأراضي الأفغانية رفقة فريقه وأجرى اتصالاته مع أعضاء التحالف الشمالي الذين كانوا حينها يناصبون العداء لنظام طالبان ويسعون للإطاحة به. وتندرج هذه المساعي في إطار تهييء الميدان لاستقبال القوات الأميركية بأقل الخسائر الممكنة، وهذا لن يتأتى بدون تعاون القوات الأفغانية الموجودة على الأرض والمعادية لطالبان، لأنها وحدها تعرف تضاريس البلاد. وتحفل صفحات الكتاب بتفاصيل رحلته المثيرة بين وديان أفغانستان السحيقة وقممها المرتفعة، بالإضافة إلى التركيبة العرقية المتنوعة للشعب الأفغاني التي جعلت من عملية التواصل مع أطيافه المختلفة أمرا صعبا للغاية. وفي هذا الصدد يذكر الكاتب كيف تسرب إليه ذات مرة شعور بالإحباط والعزلة عندما وصل إلى وادي بانشير في أفغانستان حيث جاء على لسانه "كنت أبدو كمن يصرخ في هوة سحيقة لا قرار لها".
ويعرض جاري شورين في كتابه, الصعوبات التي اعترضت طريقه أثناء قيامه بمهمته، حيث يتذكر كيف كانت الأحداث على الميدان تسبق في بعض الأوقات صناع القرار في واشنطن. ومن تلك اللحظات الصعبة التي اعترضت المؤلف, عندما فقد جنرال أفغاني من قوات التحالف الشمالي صبره وصرخ بوجه شروين "سأدخل كابول بغض النظر عما يقوله رؤساؤك". ويواصل المؤلف توثيق تلك الصعوبات بشكل دقيق ومفصل وكأنه يريد أن يلفت إليها أعين المسؤولين لمحاولة تصويبها وتفاديها في المستقبل. فعندما شكل شروين، مثلا، الفريق الذي سيصحبه في مهمته، لم يقم الجيش الأميركي بإرسال أي شخص معه لأن المهمة حسب رأيهم كانت بالغة الخطورة. كما أن القوات الخاصة الأميركية التي كان من المفترض أن تصل إلى أفغانستان بعد دخول فريق شروين تأخرت ثلاثة أسابيع تاركة الفريق عرضة للأخطار. هذا علاوة على ما تعرض له الفريق من انتقاص من قدره عندما كانت تُنسب بعض عمليات القبض على عناصر القاعدة إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي، مما تسبب في استياء العديد من أعضاء فريقه.
ويشير كذلك شروين في معرض كتابه إلى حالة انعدام التنسيق بين وحدات الجيش الأميركي المختلفة وأفراد فريقه. ويذكر، في هذا السياق، كيف كادت تودي إحدى تلك الحالات بحياة أحد أعضاء الفريق. فبينما كان هذا الأخير يتجول في منطقة مراقبة من القوات الجوية، اعتقد أحد المراقبين الجويين أن الشخص هو أسامة بن لادن وكاد يطلق عليه صاروخا لولا تدخل شروين نفسه الذي أبلغ المراقب بهوية الشخص وأنقذه من موت محقق.
ويحاول المؤلف أيضا أن يستعرض بعض المشاهد المثيرة التي أدهشت العالم عندما شاهدها على شاشات التلفزيون، كتلك التي كان يركب فيها أفراد القوات الأميركية الخيول ويقتفون آثار أعضاء القاعدة وهي العمليات التي شارك فيها شروين وفريقه. ويشير المؤلف إلى أنه بالرغم من أن تلك العملية تذكر بمشاهد القرون الوسطى إلا أنها كانت فعلا مفيدة في تعقب الأعداء، خصوصا في ظل وعورة التضاريس. ولا يتحرج شروين من الكشف عن بعض المعلومات المتعلقة بطريقة تعامله مع بعض القادة الكبار في التحالف الشمالي والوسائل التي كان يتبعها لاستقطابهم، حيث يقول إن الكثير منهم كانوا يتقاضون رشاوى من القوات الأميركية وذلك لشراء ولائهم وجعلهم أكثر تعاونا. ويؤكد أنه شخصيا أنفق خمسة ملايين دولار كرشاوى منحت لأمراء الحرب الأفغان نظير المعلومات التي يعرفونها عن أسامة بن لادن وأعوانه.
ولقد أصبح مؤلف هذا الكتاب جاري شورين أحد الوجوه المشهورة في أميركا، حيث لا يكاد يمر أسبوع دون أن تستضيفه إحدى القنوات التلفزيونية يشرح فيها العمليات السرية التي تقوم بها وكالة الاستخبارات الأميركية وأسرار نجاحها. وعن أسباب تأليفه لهذا الكتاب يشير