مصير دستور أوروبا الموحد بيد شعوبها ولا علاقة له بالحكومات. فعليه تبنى الاستفتاءات تلو الأخرى لضمان حسن القبول والتطبيق السليم من القاعدة إلى القمة.
إننا نمر أمام مشهد معجز تتحول فيه الدول الأوروبية التي كانت في يوم من الأيام أشتاتا متناثرة إلى وحدة منسجمة سيجمعها رباط الدستور الواحد والذي من شروط صحته التنازل عن الكثير من حقوق السيادة التي طالما أضرت بالمصالح المشتركة لمن فضل التخلف عن الركب الأوروبي قبل نصف قرن.
فالعملة توحدت والحدود الجغرافية لا علاقة لها بالموضوع كما هي في الكثير من دول العالم الثاني والثالث والبطاقة الخضراء هي القطار المشترك للتحرك بين كل دول أوروبا وجواز السفر لا يذكر إلا للضرورة القصوى, وليس كما هو حال الجواز الذي تمزقت صفحاته من كثرة التصوير والتوثيق في كل معاملة صغيرة الشأن قبل كبيرها.
أوروبا ماضية إلى طريق الإجماع على هذا العمل الذي حرك الأوروبيين نحو الانتباه إلى مصالحهم مقابل مصالح الولايات المتحدة الأميركية في العالم. إنه مثل واضح للإرادة التي تستطيع القيام بالإنجاز الضخم إن أرادت ذلك ولو طال الزمن قليلا, وذلك لأن المعني هنا هو الإنسان الذي يحتاج إلى الرعاية في شؤونه حتى لا تنقلب الأوضاع عليه.
نتصور قليلا عندما نرى العالم يتحول من القطب الأحادي الذي ساد لعقود مضت لصالح أميركا, إلى القطب الثنائي مرة أخرى كما كان في عهد الاتحاد السوفييتي، مع الفارق الذي يصب في صالح المزيد من الحريات والديمقراطيات التي بدأت تنعم بها الدول التي تبعثرت من تحت العباءة السوفيتية المظلمة إلى صباح الأنوار الساطعة بعد صبر عقود من تحمل وهج النار والبارود والحديد المذاب على ظهر الإنسان المكبل.
فالقطبان السابقان كانا متضاربين في المصالح بـ180 درجة لكل منهما. أما القطب الأوروبي الجديد فإنه سيخلق أجواء من التوازن بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا لصالح كل القضايا المشتركة بين الطرفين, مع وجود مساحات شاسعة من التنافس, بدلا من الدخول إلى بوابات الحرب الباردة التي جمدت الكثير من المشاريع الاستراتيجية في الدول التي تأثرت بها.
إلى هنا يمكن القول إن ما يجمع بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا هي لغة المصالح المشتركة, ميزتها قوة مقارنة الدول والشعوب التي لا رابط يجمعها سوى لغة التنافر والتشرذم في هذا الوقت الحرج من دورة التاريخ المعاصر, الذي يجب أن نكون فيه نحن العرب والمسلمين أمة واحدة تمثل قطبا ثالثا متوازنا مع القطبين الآخرين. وبالتالي لابد من إيجاد لغة ثالثة مشتركة بين الأقطاب التي تدير العالم.
فالشعوب الأوروبية القاطنة في هذه الدول تتقارب أرواحها قبل أجسادها، لأن الدستور بالنسبة لها هو المحرك الفعلي. والجسد الأوروبي سينعم بميزات ناضلت من أجلها هذه الشعوب بالحوار وقوة الرأي والحجة حتى وصلت إلى ساعة قطف الثمرة اليانعة لمصلحة جميع الشعوب التي رضيت طواعية العيش تحت مظلة الاتحاد التي ستبعد عنهم ذل الزمن. وحري بنا أن ندرك موقف العرب والمسلمين في المهجر الذين يشاركون الأوروبيين وهم إخوانهم في الإنسانية هذه الفرحة, وكأنهم جزء من هذه المعادلة الدستورية. فنشوة البعض تفوق نشوة الأوروبي ذاته, لأن الأول محروم من هذه الأجواء في موطنه, أما الآخر فهو يمارس هذا الحق بصورة طبيعية، وما يقوم به من المشاركة في عملية الاستفتاء على الدستور الأوروبي هو سلوكه اليومي في شتى نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فهل نعي درس الدستور الموحد لأوروبا الموحدة في سياسة واحدة وعملة واحدة وجواز واحد وحدود مفتوحة بعيدة عن الأسلاك الشائكة منها والإلكترونية.