دعوني أسوق لكم هذه القصة، ولا أعرف إن كانت صادقة أم هي من نسج الخيال, لكن فيها رمزاً أود التعليق عليه في هذا المقال. نحن نعلم أن الشرطة من أكثر المؤسسات احتراما للتعليمات والتوجيهات التي تصدر من القيادة إلى الأفراد وعادة ما يقوم أفراد الشرطة بالتنفيذ دونما تفكير. فمن القواعد المشهورة لدى إخواننا في الإطار العسكري نفـِّذ ثم اقترحْ، وبعضهم يقول نفذ ولا تسألْ أو تقترح، ودعونا نبدأ القصة.
يحكى أن قائدا لأحد مراكز الشرطة لاحظ أثناء توليه القيادة في ذلك اليوم أن أرضية المركز عليها أوساخ إسمنتية، فبحث في الموضوع حتى اكتشف مصدر وطريقة دخول الإسمنت إلى المركز النظيف، فقد قام عمال الصيانة برصف مدخل المركز بالإسمنت ولأنه بحاجة إلى زمن كي يجف فإن الداخل إلى المركز يعلق بحذائه بعض منه، مما جعل الأفراد وسيلة غير مباشرة لانتقال الإسمنت من الخارج إلى الداخل. خصص القائد فردا للوقوف بجانب الأرضية الإسمنتية كي يقوم بتحويل الناس عن الممر إلى غيره حفاظا على نظافة المركز، سمي هذا العامل بحارس الأرضية، ولأن أعمال الصيانة مستمرة ليومين أصبح هذا المنصب لازما في المهام اليومية للمركز. وقبل أن يبدأ اليوم الثاني جاءت الأوامر العليا بترقية قائد المركز ونقله إلى مركز آخر. تولى القائد الجديد منصبه ووزع مهام أفراد الشرطة كما كان يفعل من قبل، وطبعا لم ينسَ القائد الجديد حارس الأرضية. استمر العمل بهذا التوزيع حتى جاء إلى المركز قائد شاب طموح، وأمر كل فرد في المركز بكتابة مهام عمله التي يقوم بها. لخص كل فرد أهم ما يقوم به إلا صاحبنا حارس الأرضية لم يعرف ما يكتب, فسأل الضابط المسؤول قائلا: يا سيدي أنا أقوم بهذا العمل بناء على توزيع المهام في المركز, لكنني لا أعرف حقيقة سر هذا التوزيع؟.
لم تكن الإجابة حاضرة في ذهن القائد فصرفه ووعده بالرد عليه. طلب قائد المركز من نائبه البحث التاريخي عن حقيقة حارس الأرضية. بعد البحث والتقصي تم الوصول إلى مكتشف هذا المنصب. ضحك الجميع عندما عرفوا أنه منصب من المفترض أن يدوم يومين فقط كي يجف الإسمنت، لكن أحداً لم يكلف نفسه طرح السؤال الذكي: لمَ أنا هنا؟
هذه القصة ترمز إلى الجمود في العمل وعدم الإبداع فيه، وهي لا تنطبق على شرطتنا فهم باحثون عن الإبداع أينما كان، لكن الخشية أن تتكرر هذه القصة في الإدارات والوزارات إذا ما أهملنا في حياتنا المهنية تدريب الناس على التفكير الإبداعي الذي لم يعد ترفاً بل هو لازم لكل عمل يراد له أن يتطور كي ننجح في التعامل مع المستجدات والتحديات التي تواجه دولتنا الراقية. والتفكير الإبداعي هو مجموعة من المهارات التي لو تدرب عليها الإنسان لأصبح قادراً على التجديد والابتكار في طريقة تفكيره وبالتالي فإنه سينجح في إنتاج أفكار جديدة لم يسبقه إليها أحد. وهذا النوع من التفكير هو الذي ينبغي أن يسود في كافة مؤسسات الدولة كي يستمر التقدم والازدهار الذي أرادته قيادتنا الحكيمة لهذا الوطن المعطاء. ومن هنا يطرح سؤال نفسه: أين ومتى يتدرب الناس على الإبداع؟
الجواب أتركه للجميع كي يتعامل معه بصراحة. لكن ما يهمني في هذا المقال هو الفرق بين المدير الذي يسمح بالتفكير, وغيره ممن نصب نفسه حارساً عليه اعتقاداً منه أن المدير الناجح هو من يؤمن بقولهم، "إذا تركت العقول تفكر فأنت أول الخاسرين". ودعوني أختم المقال بعبارة: "إذا أردت معرفة سر تخلف الناس فابحث في طرق تفكيرهم".