أيّ المجتمعات أسرع تطوراً ونهوضاً: القديمة أم الجديدة؟ الكبيرة أم الصغيرة؟ صاحبة المجد الحضاري التليد أم ذات التاريخ القصير؟ الدولة البرية أم الجزيرة أم شبه الجزيرة؟ المجتمع الذي لم تحتله قوى الاستعمار أم ذاك الذي تعرض للاحتلال؟ المجتمع الموحد الدين والقومية واللغة أم المجتمع التعددي؟ كيف ترى تتسابق الأمم في تطورها الحضاري؟ وما العوامل التي تتدخل في هذا السباق؟ وما دور الدولة والمؤسسات وعامة الناس وخاصتهم في هذا المضمار؟
"لقد كان في الإمكان أن يكون الشرق اليوم حيث صار الغرب، وأن يكون الغرب اليوم حيث صار الشرق", يقول المرحوم د. أحمد زكي، رئيس التحرير الأسبق لمجلة "العربي"، "كان في الإمكان أن ينفجر الفكر الإنساني في الشرق، وكانت لهذا بوادر كثيرة، وإرهاصات صادقة عارمة. ولكن أهل الفكر الحُرُّ في الشرق، وبين العرب خاصة، لم يصمدوا كما صمد أهل الفكر في الغرب، فانفجر هؤلاء قبل أن ينفجر أولئك، ففازوا بثمرات الرأي الحر. أما رأينا الحر، رأينا نحن العرب، فقد ظلّ مُروَّعاً سجيناً قروناً... وقام على السجن سجانون لبسوا ثياب الورع والتقوى". وكانت النتيجة، يقول، أن "أفلتت الفرصة الكبرى من الشرق، لا سيما العربي، وتلقفها الغرب. ثم كانت إرادة الله".
ويعدد د. زكي جوانب سيطرة الحضارة والمقتبسات الغربية على حياتنا المعاصرة. خذ التعليم مثلاً، الأكثرية الكبرى من مواد الدروس مما اكتشفه أو كتبه أهل الغرب. وفن التدريس نفسه بعض فنون الغرب. وعلوم الجامعات من علوم الغرب. وفي مجال الحكم وأجهزته نجد التأثير الغربي الواضح. وينطبق الشيء نفسه على وسائل المواصلات والإعلام وكذلك مجالات الأدب والحرب والمال والاقتصاد... والجامعات.
وتأمل د. زكي الحضارة الغربية في اليابان والصين، وقال متنبئاً بصعود الصين بأن هذه الأخيرة تعبُّ من العلم عباً، وتقتبس من مدنية الغرب بنهم ليس فوقه نهم. ولهذا فالمدنية الحاضرة أخذت سبيلها إلى الشرق بخطى قوية لا شك فيها.... "فهذه الأمم التي ظلت وتظل تأخذ من المدنية الغربية، أخذت تعطي لها. ولن يمضي عليها غير قرن حتى تكون هي والغرب صنوين، وقد تفُوقُ، فيصبح الغرب يأخذ منها الكثير ويعطي القليل. ويتحول بذلك مركز ثقل المدنية من أوروبا إلى آسيا".
وتستحق نبوءة د. زكي في صعود دول الشرق وتدهور دول الغرب بعض التوقف، فهذه ظاهرة شديدة التكرار في فكر وكتابات العرب والمشارقة والمسلمين على وجه الخصوص. فالبنية التحتية للحضارة الغربية في أوروبا وأميركا واستراليا مثلاً لا تزال قوية خصبة، والمكتشفات والمخترعات تتوالى، وتحديث هذه البنية في كل البلدان المتقدمة جارٍ بانتظام على قدم وساق، والكثير من خيرة أبناء العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث يهاجرون إليها، فلماذا يتحتم تدهور الدول الغربية وسقوط حضارتها إذا نهضت الصين واليابان وحتى بعض بلدان العالم الإسلامي؟ لماذا هذا الحرص الموروث على تحطيم الغرب وحضارته ونحن لم نبنِ حتى الآن حضارتنا؟
يتحدث كتاب كثيرون في العالم العربي عن أسباب عدم لحاقنا بالبلدان المتقدمة، وأسباب تخلفنا. يقول كاتب في مقال بعنوان لماذا نحن عاجزون عن التجديد ما يلي:
"يتحدث محمد أركون عما يسميه سوسيولوجيا الإخفاق في الفكر العربي-الإسلامي، أي مطلب البحث عن أسباب تهميش وإقصاء تيارات فكرية وعقدية بعينها، لصالح التقليد المهيمن الذي هو أساس المذاهب السائدة حالياً. فلماذا انهار المذهب الاعتزالي الذي كرس التأويل العقلاني للنص الديني وأكد فكرة الخيار الإنساني الحر؟ ولماذا لا يكون لتأويلية ابن رشد، التي شكلت مرتكز فكر النهضة الأوروبية، أي تأثير يذكر في التقليد الإسلامي الوسيط؟ ولماذا ظلت مقدمة ابن خلدون بفلسفتها للتاريخ وتصورها الموضوعي لرهانات السلطة والمجتمع، مجهولة حتى العصر الحاضر ولم تستثمر ابستمولوجيا في الحقل التراثي؟ ولماذا فشل مشروع الشاطبي في إعادة بناء أصول الفقه الإسلامي، على أساس مقاصد الشرع بدل آلية القياس الشكلانية الحرفية"؟
بل لم تعثر الزخم التنويري التجديدي لفكر الإصلاحية النهضوية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يتساءل كاتب المقال نفسه، وغدت مواقف وآراء الأفغاني ومحمد عبده مدار شبهة ونكير واعتراض، ينعت أحدهما بالماسونية ويتهم الآخر بالعمالة؟
ولماذا هجرت الجماهير "الإسلام الحضاري" إلى "الإسلام الأصولي"، وفضلت سيد قطب والمودودي على محمد عبده ومحمد إقبال؟ ولماذا، كما نتساءل دوماً، تكون المنطقة العربية بالذات، موطن أربع أو خمس حضارات رئيسية من حضارات البشرية، وتتعثر فيها خطوات التحديث والنهوض كل هذا التعثر؟ أم أن نهوض المجتمعات الجديدة أسهل وأسرع من مجتمعاتنا القديمة المثقلة بالتراث والمكبلة بالتقاليد؟
إن الشعوب تتفاوت في استجابتها إزاء الحضارة المؤثرة، وقد شرحها دارسو الحضارات وفي مقدمتهم "تويْنْبي". فهناك موقف الرفض المطلق الذي تتخذه فئة لكل ما يأتيها من الخارج، والحافز إليه عداءٌ للحضا