يبدأ اليوم المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم في سوريا وسط آمال داخلية واسعة في التغيير، والإصلاح، ومع بلوغ الضغوط الدولية المسلطة على سوريا درجة من الشدة لم يعد واضحاً معها سقف المطالب الدولية بالضبط، ومدى الاستجابات الممكنة من سوريا، وما من شأنه أن يرضي مختلف اللاعبين الدوليين والإقليميين المشتركين في عملية "لي ذراع دمشق"، سواء في ذلك الأوروبيون والأميركيون، وسواء أيضاً الحكومة العراقية الجديدة، والمعارضة اللبنانية، وفريق التحقيق الدولي في مقتل الحريري، وحكومة شارون، ومنافسين إقليميين آخرين، إلى آخر قائمة "نادي خصوم سوريا" الكثيرين. ولاشك أن قادة "البعث" الحاكم في عاصمة الأمويين يعرفون أنهم أمام منعطف تاريخي حافل بكمٍّ من التحديات الجدية، يقتضي الإقدام على استجابات غير تقليدية ولا تكفي أدبيات الحزب وتقاليده وحدها لصدِّها، أو حتى للالتفاف عليها، دعْ عنك تصديرها إلى الداخل أو الخارج. إذ لابد أن تكون الاستجابة، هذه المرة، على قدر التحدي، وأن تطرح جميع المسلَّمات للنقاش، ابتداءً من المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن "حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع"، وانتهاءً بمراجعة قانون الطوارئ الساري منذ 1963 حتى الآن وقصره على الحالات "الأمنية" فقط، إن لم يكن إلغاؤه بالمرة خياراً مقبولاً.
ولئن كان التصنيف سهلاً لعناصر "الفسطاط" الخارجي الذي يقف في مواجهة دمشق، خاصة بعد اغتيال الحريري، فإن "الفسطاط" الداخلي السوري نفسه ما زال يحتفظ بقدر غير قليل من الغموض. فأطياف المعارضة السورية تتراوح بين تلك التي تمارس "نضال الصالونات" من ندوات وندوات مضادة تعقد بين السماح والتغاضي والمنع والاعتقال. أو المعارضة العنيفة التي يتزعمها "الإخوان" وبعض أجنحة الحزب الشيوعي، وتكتنز من مرارات الذكريات ما يحول بينها وبين أي تفكير عقلاني وجدي في التفاهم والتعايش والإصلاح الداخلي مع "البعث" الحاكم مهما كان نوعه، وكائناً ما كان الإصلاح أو التغيير.
وبين تجاذبات "الفسطاطين" الداخلي والخارجي، يجد قادة "البعث" السوري الحاكم أنفسهم أمام كمٍّ من التطلعات الشعبية، والدعوات الإصلاحية، تتراوح بين التخفف من أعباء بعض رموز الحرس القديم، وتتحدث التسريبات عن استبعاد أسماء من الوزن الثقيل كخدام ومشارقة والأحمر وميرو، ولا أحد يعرف أية أسماء أخرى ستحملها مفاجآت اللحظة الأخيرة، وبين مطالب فض هيمنة الحزب المطلقة على الحكومة، وتحرير الأجهزة الحكومية من تدخلات الحزب ووصايته المنصوص عليها قانوناً!، وإعادة الاعتبار إلى ذوي الكفاءات والتكنوقراط. وستساعد مثل هذه الخطوة كثيراً على تعويم الاقتصاد السوري وجعله اقتصاد سوق حتى لو كان الدستور الحالي يتناقض من حيث المبدأ مع ذلك، حيث ينص في مقدماته على ضرورة "بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد".
وتستطيع دمشق في مواجهة كل هذه التحديات الممتدة من "الحالة اللبنانية"، والعراقية، والفلسطينية، والموقف الأميركي المعبأ إسرائيلياً بما فيه الكفاية ضدها، وبعد أن خسرت التعاطف الأوروبي، وبعض التعاطف العربي والتركي، وحتى الإيراني، والروسي أيضاً، تستطيع أن تراهن في مواجهة كل ذلك رهاناً لا يخيب، وسيخلط الأوراق، وينسف مبررات أي "فسطاط"، مهما كان، يقف في مواجهتها. وذلك بالمراهنة على الشعب السوري نفسه، وليس على شيء آخر. والمراهنة على الشعب السوري لها طريقة واحدة هي إعادة الاعتبار إلى المشاركة الشعبية، وتفعيل الخيار الديمقراطي الحقيقي، وجعل عامة الناس يهبُّون للدفاع عن مصالح بلادهم، ولصيانة استقلالها، وبدون تفعيل هذا "الفسطاط" الداخلي الشعبي، من خلال الديمقراطية الحقيقية، غير الترقيعية، أو الالتفافية، إن جاز التعبير، ستبقى دمشق نهباً للضغوط، والتهديدات، والاختناقات الداخلية، حتى تقرع القارعة... وما أدراك ما القارعة؟.