في الثلاثين من شهر مايو الماضي اعتقلت القوات الأميركية السيد محسن عبدالحميد زعيم الحزب الإسلامي وثلاثة من أولاده وحرسه ثم جرى الإفراج عنهم لاحقاً بعد أن تم كشف "الخطأ" على حد زعم القوات الأميركية. اكتسب الحادث أهميته من وجوه عدة منها مثلاً أنه تم بحق واحد من ساسة السنة المعتدلين الذين قبلوا التعاون مع سلطات الاحتلال، وقد كان عضواً في مجلس الحكم الانتقالي بل تولى مرة رئاسته قبل أن تتم مسرحية "تسليم السلطة" من القوات الأميركية إلى الحكومة العراقية. بل إن عبدالحميد كان لحظة اعتقاله منغمساً في محادثات مع الحكومة العراقية لإيجاد آلية لمشاركة السنة في صوغ الدستور، ومن هنا اعتبر البعض الضربة الموجهة إليه جزءاً من محاولة اغتيال "الاعتدال السني"، ويتفق مع هذا ما قيل من أحد مصادر السنة البارزين من أن الإدارة الأميركية تدعوهم للمشاركة في صوغ الدستور بما يتناقض مع الممارسات اليومية لقواتها، والتي تعد بحق من أقصر الطرق لإشعال فتنة طائفية في العراق.
لكن المغزى الأهم لحادث اعتقال السيد محسن عبدالحميد يتعلق دون شك بخاصية السيادة المزعومة في العراق. عندما جرت مراسم ما سمي بنقل السيادة للعراقيين منذ ما يزيد على العام بأيام قليلة كتبت في هذه الصفحات نفسها مقالاً بعنوان "فيض السيادة في العراق" أفند فيه الرأي القائل إن سيادة ما قد انتقلت إلى العراقيين، وبطبيعة الحال اختلف آخرون مع هذا الرأي وتنوعت حججهم لكن فحواها بقي واحداً: إن هناك للمرة الأولى سيادة حقيقية في العراق.
لعل القيمة الحقيقية لواقعة الاعتقال "الخطأ" لمحسن عبدالحميد أنها قد استفزت شاهداً من أهلها أو اضطرته للاعتراف بأن القوات الأميركية تفعل ما يحلو لها في العراق دون قيد من أي نوع عليها. صرح الرئيس العراقي جلال الطالباني بعد اعتقال الرجل بأن مجلس الرئاسة "لم يُستشر في أمر الاعتقال"، واعتبر التعامل مع هذه الشخصية البارزة بصورة اعتباطية أمراً غير مقبول، وقد طالب الرئيس العراقي على أي حال بالإفراج الفوري عن السيد محسن عبدالحميد، فيما أمر الجعفري رئيس الوزراء بإجراء تحقيق في الحادث. وقد نضيف إلى دلالات واقعة الاعتقال ما صرح به وزير العدل العراقي عبد الحسين شندل في مؤتمر صحفي في اليوم السابق للاعتقال من أن "القوات الأميركية ترفض تسليم صدام حسين إلى المحكمة الجنائية لاستكمال التحقيق معه". فعن أي سيادة عراقية يتحدثون؟
هذه الحكومة ذات السيادة هي نفسها التي طالب وزير خارجيتها السيد هوشياري زيباري في مطلع هذا الشهر من مجلس الأمن أن يجدد التفويض الممنوح للقوات "متعددة الجنسيات" التي تقودها الولايات المتحدة. قدم وزير الخارجية استعراضاً نمطياً للوضع في العراق يدعم به طلبه بموجب القرار 1546 الصادر بالإجماع في يونيو2004. في هذا الاستعراض أشار إلى أن حكومة العراق المنتخبة "والشعب العراقي" "يشيدان بالقوة متعددة الجنسيات ويعربان عن الامتنان لها على إسهامها في تحقيق الأمن في بلدنا، ففي ممارسة القوة لولايتها ساعدت العراق على اجتياز عام آخر من التقدم التاريخي والرائع على طريق الديمقراطية والاستقرار".
تحدث الوزير أيضاً عن إعادة الحكومة العراقية المؤقتة تأكيد "سيادة العراق" في يونيو2004 وتوليها المسؤولية "بالكامل" عن تحويل العراق من بلد محتل إلى ديمقراطية ناشئة. وسرد التطورات الإيجابية الخاصة بإجراء الانتخابات وعن مد الأيدي في تشكيل الحكومة الانتقالية إلى كل الجماهير في العراق وتشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل الجميع وتمثلهم، وعن تقاسم السلطة مع من "قاطعوا الانتخابات" أو لم يحصلوا على نتائج جيدة فيها، وأعرب عن سروره لإبلاغ مجلس الأمن بأن الذين اختاروا عدم المشاركة في الانتخابات أو لم يتمكنوا من المشاركة فيها بسبب حملة الترويع في مناطقهم يدركون الآن أنهم أساءوا التقدير ويستعدون لجولة انتخابات ديسمبر المقبل.
أفاض الوزير بعد ذلك في الحديث عن الحملة الإرهابية المدمرة التي يواجهها العراق والتي تستهدف تقويض العملية السياسية والقضاء على التقدم الذي تم إحرازه حتى الآن. تحدث كذلك عن تمرد مسلح تشارك فيه عناصر أجنبية تعارض انتقال العراق إلى الحكم الديمقراطي، ولم ينس بطبيعة الحال الإشارة إلى دور الدول المجاورة في تسهيل دخول هذه العناصر إلى العراق وسوريا تحديداً، والمشكلة من وجهة نظره أن جهود بناء القوات الأمنية العراقية ما تزال غير كافية حتى الآن للنهوض بمسؤولية حفظ الأمن الوطني للعراق والدفاع عن حدوده، ولذلك كله "يجب أن تستمر القوة متعددة الجنسيات في تقديم إسهامها الضروري في أمننا".
يبدو طلب التمديد لقوات الاحتلال المسماة من قبل التدليل بالقوة متعددة الجنسيات معيباً إذن من الناحية الموضوعية كونه صادرا عن حكومة بلد اعترف رئيسه بأنه لم يُستشر في شأن اعتقال واحد من أبرز القيادات السياسية المعتدلة فيه، واعترف وزير العدل فيه بأن القوات الأميركية لا توافق على تسليم صدام حسين إلى السلطات العراقية لمحاكمته بموج