هل يمكن لأنواع من الغذاء أن تصبح بديلا عمليا للعقاقير الطبية؟ وهل من الممكن الاعتماد في علاج الأمراض، على شرب عصائر الفواكه فقط؟ وهل لا زالت صيدلية الطبيعة تحمل في طياتها المزيد من الكنوز واللآلئ الثمينة، تقبع جميعها في انتظار من يكتشفها ويوظفها في مجال الطب والعلاج؟ هذه الأسئلة جميعها، أصبحت تندرج تحت مفهوم أو مصطلح جديد يعرف بالأغذية الفعالة، أو مجازا الأغذية العلاجية (Functional Foods)، وهي الأغذية التي تتخطى حدود القيمة الغذائية المتعارف عليها، لتشتمل أيضا على قيمة علاجية، وأحيانا قيمة مضافة أخرى مثل المساعدة على إنقاص الوزن أو التخلص من التجاعيد!
مما لا شك فيه أن هذا المفهوم، المشترك بين الطب النبوي والطب الشعبي والطب التقليدي والطب الحديث، وغيرها من أنواع الطب، قد أصبح مؤخرا عرضة لسوء الاستغلال والتربح التجاري، إما من قبل شركات الأغذية التي تدعي أن منتجاتها تفيد في كذا أو كذا، أو من قبل صناعة نشر تنتج مئات الكتب، يزعم كل منها أنه المرجع الأوحد في الطب والغذاء، ويحمل كل منها أيضا بين صفحاته ادعاءات كثيرة وفوائد جمة لهذا الغذاء أو ذاك، وهي الادعاءات التي لا يمكن وصفها إلا بأنها شديدة المبالغة فاقدة للأساس العلمي. ولن يتسع المقام هنا لاستعراض جميع السلبيات والإيجابيات لموضة الأغذية الفعالة أو العلاجية، وهو الموضوع الذي أصبحت تؤلف فيه الموسوعات. ولذا سنقتصر هنا على غذاء واحد، ثبتت فعاليته بالدراسات والأبحاث الطبية الموثقة، وهو عصير نبات التوت البري Cranberry Juice.
فدائما ما شعرت النساء القاطنات للمناطق الباردة، حيث تنمو شجيرات التوت البري، بأن شرب عصير الثمار يساعدهن على الوقاية والشفاء من التهابات المجاري البولية. وهي الحقيقة التي أكدتها دراسة أجرتها قبل أربعة أعوام، مجموعة من العلماء الفنلنديين بجامعة "أولو" (University of Oulu). حيث أظهرت الدراسة أن شرب عصير التوت البري بانتظام، قد نجح في خفض عدد مرات التعرض لعدوى التهابات المجاري البولية. هذا الاكتشاف على بساطته، يحمل تبعات طبية ومالية هائلة. فعدوى المجاري البولية تحدث لدى النساء غالبا في النصف الأخير من العشرينات (25-29)، وهي الفترة التي تتميز أيضا بارتفاع معدلات الحمل والإنجاب. وإذا ما أصيبت امرأة حامل بعدوى المجاري البولية، فمن الضروري علاجها بالمضادات الحيوية، وهو الإجراء الذي يحمل مخاطر جمة على صحة وسلامة الجنين. وهو ما يجعل مثلا من تناول عصير نبات التوت البري بانتظام أثناء الحمل، بديلا أقل خطرا على الجنين وأكثر أمنا للأم، وخصوصا من قبل النساء المعروف عنهن كثرة تعرضهن لالتهابات المجاري البولية سابقا. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن عدوى المجاري البولية لدى النساء، هي حالة واسعة الانتشار، إلى درجة أن ستين في المئة من النساء يصبن بها في وقت ما من حياتهن، مع تعرض ثلث هؤلاء لتكرار الإصابة في أقل من عام، فسندرك بسهولة مدى الوقع الذي سيتركه تناول بعض أكواب من العصير على حياة كل هؤلاء النساء، اللاتي يعانين من الآلام المصاحبة للالتهاب في صمت وأنين. أما بالنسبة للأهمية المالية لمثل هذا الاكتشاف البسيط، فيكفينا أن نعلم أن تكلفة علاج التهابات المجاري البولية بين النساء في الولايات المتحدة فقط، تتخطى حاجز المليار ونصف مليار دولار سنويا، تنفق جميعها على المضادات الحيوية وعلى مسكنات الآلام. هذه الفاتورة التي يمكن لبعض أكواب من عصير التوت البري أن تجتز جزءاً كبيراً من قيمتها، وبدون التعرض للآثار والمضاعفات الجانبية المصاحبة للعقاقير الكيميائية.
ويبدو أن فوائد التوت البري لم تتوقف عند الميكروبات التي تصيب المجاري البولية، بل تتعداها أيضا إلى واحد من أكثر الفيروسات انتشارا بين بني البشر، وهو الفيروس المسؤول عن مرض الهربس التناسلي (Genital Herpes). ففي شهر أكتوبر الماضي نشر علماء من تايوان نتائج دراسة، أظهرت قدرة عصير التوت البري على خفض تأثير الفيروس على الخلايا، مما يرجح إمكانية استخدامه كعلاج. ويعزو العلماء هذه الظاهرة إلى احتواء العصير على مركبات كيميائية خاصة، تعيق قدرة الفيروس على الالتصاق بالخلايا، ومن ثم تمنعه من اقتحامها وغزوها. هذا الاكتشاف لا زال في الطور المعملي، ولكن يمكننا أن نتخيل مدى فائدته الطبية، إذا ما أدركنا أن فيروس الهربس التناسلي يصيب الملايين حول العالم -22% من سكان الولايات المتحدة مثلا-، ودون أن يتوفر حاليا علاج ناجع يمكنه تخليص الجسم منه. وحتى أدوية الفيروسات المتوفرة، والتي تستخدم فقط لتخفيف حدة النوبات وتقصير فتراتها، تتخطى تكلفتها المادية مقدرة الكثيرين من المرضى. وهو ما يجعل عصير التوت البري –إذا ما ثبتت فعاليته فعلا في هذه الحالة- حلا سحريا للملايين من مرضى الهربس حول العالم. هذا النبات العجيب، يبدو أن حلقات وفصول مسلسل الاكتشافات العلمية لفوائده واستخداماته لم تصل إلى نهايتها بعد. ففي الأسبوع الماضي تناقلت وسائل الإعلام العالمية، خبر درا