في عام 1915, أبرمت الحكومتان البريطانية والفرنسية, اتفاقية سرية, هي اتفاقية "سايكس بيكو" التي رتبتا بموجبها خطة اقتسام الشرق الأوسط, وتوزيعه فيما بينهما على إثر هزيمة واندحار الإمبراطورية العثمانية. وفي عام 1956 أبرمت كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل, اتفاقية سرية هي "اتفاقية سيفري" بلورت بموجبها خطة للعدوان الثلاثي على مصر, الذي كان يهدف للسيطرة على قناة السويس, والإطاحة بالنظام القومي الذي كان يقوده الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وفي أبريل من عام 2002 أبرمت واشنطن ولندن, اتفاقية على درجة عالية واستثنائية من السرية, هي اتفاقية "كراوفورد" التي اتفقتا بموجبها على وضع خطة سرية لغزو العراق. والهدف هذه المرة, هو "خلق أوضاع معينة" من شأنها تبرير غزوهما غير القانوني للعراق, وبلورة الرأي العام حوله.
كما كشفت المعلومات التي تسربت لصحيفة "صنداي تايمز" الصادرة في أول مايو المنصرم من وثائق سرية مصنفة, عن أن اجتماعاً سرياًَ عقد في الثالث والعشرين من يوليو عام 2002 بـ"10 داونينج ستريت" بحضور رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. وكان في تقدير جون سكارليت – رئيس اللجنة الاستخباراتية المشتركة- أن المبرر الرئيسي لغزو العراق, لم يكن ليتمثل في الخطر المنسوب إلى أسلحة الدمار الشامل العراقية, بقدر ما كان هو إسقاط نظام صدام حسين. ولذلك فقد كان الحديث يكاد لا يذكر تقريباً عن أسلحة الدمار الشامل. ومن جانبه قال ريتشارد ديرلوف –رئيس وحدة M16- إن الأميركيين حاولوا إيجاد صلة ما, بين هجمات الحادي عشر من سبتمبر ونظام صدام حسين, وإنه كان يجري عندهم نسج الحقائق الاستخباراتية حول هذه السياسة. ومن جانبه كان جاك سترو, وزير الخارجية البريطاني, على قناعة بأنه لا توجد أدلة تذكر ضد صدام حسين. وعلى حد قوله "فإن صدام لم يكن ليهدد جيرانه, وإن ما لديه من أسلحة دمار شامل, كان أقل بكثير مما هو لكوريا الشمالية وليبيا وإيران".
أما وجهة النظر القانونية للادعاء العام البريطاني –سير بيتر جولدسميث- فقد كانت: إن الرغبة في تغيير النظام في العراق, لم تكن لتصلح أساساً قانونياً لتبرير شن الحرب. إلى ذلك فقد اقترح جاك سترو اتخاذ منحى يذكر بالطريق ذاته الذي اتخذه التحالف الثلاثي الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي في عام 1956 ضد مصر, وهو استفزاز صدام حسين ونصب فخ له, حتى يعطيهم مبرراً لشن حربهم المدبرة ضده. ولذلك فقد دعا سترو إلى فكرة تبني توجيه إنذار أخير إليه.
وفي الواقع فإن اتفاقية "كراوفورد" السرية هذه, التي جعلت شن الحرب على العراق أمراً ممكناً, وما تبع ذلك من تطور استثنائي للأحداث على المسرح الدولي ككل, إنما أرجعت العالم إلى عالم العلاقات الدولية السائدة في القرن التاسع عشر, حيث الاتفاقات والمؤامرات السرية, والهيمنة الإمبريالية. يذكر بهذه المناسبة أن الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون كان قد زعم أن الحرب العالمية الأولى, إنما شنت أصلاً, كي تجعل العالم أكثر أمناً وسلامة, من أجل بروز نظام عالمي جديد, لا يوجد فيه مكان للاتفاقيات والمعاهدات السرية, ولا سبيل فيه لمصادرة حق الأمم والشعوب في تقرير مصيرها ومستقبلها.
لكن وبعد مضي ما يقارب القرن تقريباً على ذلك التصريح, ربما يبدي ويلسون دهشة ما بعدها دهشة, إزاء ما أثير من تحدٍّ, وما لحق من سخرية واستهزاء بذلك النظام العالمي الجديد الذي بشر به. وكم تكون دهشته كبيرة حين يعلم أن السائد اليوم, هو عالم المعاهدات السرية والمؤامرات, الذي حارب ضده. ذاك هو عالم الإمبريالية ودنيا ما يسمى بـ"السياسات الواقعية العملية"!.