تحت ضغط آتٍ من الأوضاع الدولية التي سادت آنذاك، ومن القوى الداخلية المتولدة نتيجة لتأثير الحداثة واستفزازات الحكم الأجنبي، فإن الاستعمار خرج من السودان على مضض. ومع مزاولة الحكومة الوطنية المركزية في الخرطوم لمهامها بدأت في الظهور عوامل التفكك الإقليمي، والحساسيات الطبقية وصراعات الفئات المجتمعية التي كانت محتجبة وراء أنماط من العلاقات كانت تبدو مستقرة.
بعض حالات الصراع القائمة فعلاً أو المحتمل قيامها، متجذرة بعمق في الأوضاع التي كانت سائدة قبل دخول الحكم الأجنبي، إلى السودان، والبعض الآخر هو نتاج للظروف والقوى التي أوجدها الاستعمار، والبعض الثالث يبقى كنتيجة حتمية للأوضاع التي اختفت السيطرة الاستعمارية تحت وطأتها. إن معظم هذه الحالات تسببت في تواجد عدم استقرار سياسي متواصل بالإضافة إلى نظرة مستقبلية قاتمة لقيام حكومة ديمقراطية مستقرة.
وفي تقديري فإن ما حدث في الجنوب أو ما يحدث في دارفور حالياً، أو ما قد يحدث في مناطق سودانية أخرى مستقبلاً، توجد له ثلاثة مسببات ذات علاقة بمشكلة الدمج السياسي.
الأول له علاقة بصيغة ومدى التنظيم السياسي المرتبط بالوحدات السياسية الثقافية التقليدية، والنظام الإقليمي الاستعماري الذي تشكلت تحت مظلته تركيبة السودان الحالية. فالوحدات المكونة للسودان حالياً تمت لملمتها بصورة عرضية وأعلنت رسمياً بأنها دولة قومية حديثة. ويعود السبب الثاني إلى المؤسسات السياسية: ففي السودان المستقل عند قيامه أول الأمر تم التبني غير المدروس للديمقراطية البرلمانية، والمؤسسات الإقليمية الموحدة لدولة ذات حكم مركزي. ويعود الأمر الثالث إلى طبيعة السلطة السياسية: حيث تم استبدال النخبة السودانية التقليدية القديمة والبيروقراطية الاستعمارية التي خدمت تحت ظلها، بنخبة جديدة ذات تعليم حديث على النمط الغربي.
تلك التغيرات في نطاق التنظيم السياسي، وبنية المؤسسات السياسية وطبيعة النخبة السياسية الحاكمة، إما أن تكون قد فاقمت أو خلقت هي ذاتها ثلاثة أنواع رئيسية من مسببات التفكك. فهي أولاً, خلقت عدم الوحدة بين الجماعات الثقافية السودانية الأصلية، التي تم ضمها عشوائياً إلى بعضها بعضاً سياسياً في دولة ذات تركيبة قبلية معقدة. وثانياً، هي خلقت التوترات بين المجتمعات العرقية المتعددة التي تشكل المجتمع الجماعي للدولة. وثالثاً، هي خلقت تفاوتات اجتماعية- اقتصادية عميقة بين النخبة السياسية التي تحكم القطر وجماهير الشعب السوداني.
لذلك فإن ما يحدث في دارفور اليوم ليس بأمر وليد الساعة، وفقاً لما تحاول العديد من الأطراف الخارجية تصويره. إنه في الواقع أمر مزمن ولكنه لم يخرج إلى سطح الأحداث إلا عندما شعرت العديد من الأطراف الخارجية بأن مصالح مستقبلية واسعة تتواجد لها في السودان. إن الاستقرار السياسي وإقامة مؤسسات ديمقراطية هي أمور ذات علاقة وطيدة بالأوضاع الثلاثة المختلفة وهي القبلية والعرقية والتفاوت الطبقي. وكل من يحاول أن يصور الأمر بأنه تطهير عرقي مجرد، أو سعي من الحكومة المركزية للسيطرة على المقدرات الاقتصادية للإقليم وفي معزل عن العوامل الأخرى التي سقناها هو مخطئ إلى حد كبير.
يمكن القول إذن إنه بالنسبة لأولئك الذين لا يعلمون ما هو أعمق عن شؤون السودان فإن إطلاق الاتهامات ضد قبائل "عربية" بأنها تقوم بالتطهير العرقي ضد أهالي دارفور، يعتبر أمراً فيه تجنٍ على عرب السودان، ومبالغة في تسطيح الأمور. وفي هذا السياق لابد من طرح مجموعة أسئلة جوهرية, ومنها: لماذا يحدث كل ذلك الآن في غرب السودان؟ ألم يتعايش أهله لمئات السنين مع غيرهم دون مشاكل؟ أو لم تأت الحركة التي أقامت السودان الحديث قبل أن يدخله البريطانيون من غرب السودان؟ أو ليس غرب السودان هو العمق الاستراتيجي الأكثر أهمية لباقي الأقاليم؟ فكيف يريد الآخرون أن يقدم عرب السودان على التفريط بدارفور أو غيرها من مناطق السودان؟.