نعود اليوم لنتذكر الإصلاح، القضية الغائبة الحاضرة. الغائبة من وجهة نظر المستفيدين من غيابها، والحاضرة كأمل يمكن تحقيقه في وجدان الشعوب. نحاول أن نطرح توصيفاً للذي يتصدى لعملية الإصلاح.
فمنذ أن تصاعدت حدة صيحات الإصلاح السياسي والاقتصادي في العالم العربي، وأمطرت سماء أميركا ومجموعة الثماني الكبار مشروعات عدة لإصلاح الحال العربي، وطرحت أشجار الخريف العربي مقترحات لتغيير الوضع الراهن، سعى الجميع من ساسة ومسؤولين ومثقفين وكتاب وصحافيين وخبراء عرب إلى الإجابة على سؤال غريب ومدهش في آن واحد: من المسؤول عن القيام بالإصلاح في الدول العربية؟ وانقسموا إلى ثلاث فئات أو تيارات متباينة من حيث تحديد الجهة المسؤولة وقيمة التكلفة والعائد والمتضررين من هذا الإصلاح.
التيار الأول رأى أن مسؤولية الإصلاح تقع من أعلى، أي من قمة السلطة، لذلك يجب على الأنظمة الحاكمة أن تتبنى مشروعاً متكاملاً للإصلاح وتتحمل مسؤولية تنفيذه، فهي التي تملك سلطة الفعل واتخاذ القرار وتتوافر لها آليات تنفيذه، وفي الوقت نفسه هي صاحبة النفوذ والسلطان الذي سيتأثر حتماً أكثر من غيره بالإصلاحات السياسية.
بينما رأى أصحاب التيار الثاني أن الإصلاح يبدأ من أسفل، أي أن الجماهير الشعبية هي المسؤولة عن إحداث التغيير المنشود, فهي صاحبة المصلحة الحقيقية في تحقيق الإصلاح، وهي الفئة التي تدفع ثمن التسلط والمركزية، وهي التي تعاني وتدفع ثمن التعثر والتدهور وافتقاد الحقوق، لذا فهي وحدها القادرة على فرض حقوقها وممارسة مسؤولياتها واستعادة السلطة.
أما أصحاب التيار الثالث فيرون أن الإصلاح مسؤولية الجميع، سواء من هم في أعلى السلطة أو المحكومين بها، أي "حبة فوق وحبة تحت"، ومن خلال الحوار الوطني والنقاش البناء بينهما يمكن التوصل إلى صيغة مناسبة وواقعية للتغيير يسهل الاتفاق على تطبيقها، ومن ثم سيتعاون الجميع في ذلك.
ورغم أن لكل تيار من هذه التيارات وجهة نظره التي تعتمد على مبررات وحجج مقنعة في تحديد مسؤولية الجهة التي يجب أن تتحمل مسؤولية الإصلاح في الدول العربية، فإن الجميع، سواء انطلاقاً من تيار "حبة فوق" أو من تيار "حبة تحت"، أو التيار الذي جمع بين الاثنين، لم يتفقوا من البداية على السمات الواجب توافرها في المصلح الذي يجب أن يتحمل مسؤولية الإصلاح، والتي نوجزها فيما يلي:
1- ألا يكون صاحب مصلحة في عدم الإصلاح، وألا تكون مصلحته مرتبطة باستمرار الوضع على ما هو عليه.
2 - أن يكون على قناعة تامة وإيمان كامل بأهمية التغيير والإصلاح لمستقبل الوطن والمواطنين، وبأنهما الطريق الوحيد للخروج من الأزمة المستحكمة والمستمرة منذ 1400 عام.
3- أن يتفهم طبيعة الإصلاح وأبعاده ومداه، ويتحرر من القوالب التاريخية الجامدة التي صبت فيها الحياة السياسية العربية، ويقتنع بقدرته على تحطيمها.
4- أن يمتلك إرادة الفعل والتغيير، ويتمتع بمصداقية الفعل، ويثق في قدرته على تنفيذه.
5- أن تتوافر له آليات وقدرات تنفيذ استراتيجية الإصلاح وسياساته وبرامجه، مع دقة متابعة التنفيذ.
6- أن يترفع عن الدخول في متاهات مشروعات الإصلاح المختلفة المطروحة من كل حدب وصوب، ويتغاضى عن ضرورات أن تنبع من الداخل وألا تفرض من الخارج، ويركز على مطالب الإصلاح الحقيقي، ويتمسك بالشفافية والموضوعية والعقلانية في اختيار خطوات وبرامج الإصلاح دون النظر لمصدرها، وأن يضع خطة متكاملة لتنفيذها وفق توقيتات زمنية واضحة.
7- أن يتحلى بالمصداقية في توجهه الإصلاحي دون انتظار أن يمجده أو يكرمه أحد أو يوصف بأنه "جاب الذئب من ذيله".
8- أن يتخلى عن الجوقة التي تمجده ليلاً ونهاراً، وتؤكد له بأنه ليس في "الإمكان أحسن مما كان"، وأن الشعوب لا تستحق الديمقراطية والحرية، وهي قانعة بحالها.
9- ألا يكون من المتشبثين أو الطامعين أو الساعين لـ"العروش" أو "الكروش"، لأن الأول قد ينظر من خلال حاشيته ولذلك لا يشعر بحقيقة الوضع، أما الثاني فهدفه الأساسي هو المال والجاه والسلطان ليملأ الـ"كرش" ولا يهمه أي إصلاح أو تغيير.
10- أن يتسم بالإخلاص والتفاني في خدمة وطنه، وإيمانه الكامل بأن مسؤوليته هي العمل للصالح العام، وأن ما يقوم به ليس مِنّة أو منحة للوطن والمواطن بل واجب والتزام لضمان مستقبل أفضل، وأن الإصلاح لا يتحقق بنظام الخطوة خطوة أو المسكنات، فهو قفزة بكل معانيها إلى المستقبل.
ذلك كله "غيض من فيض"، حول الصفات والسمات التي يجب أن تتوافر في من يجب أن يتصدى للإصلاح في الدول العربية. لذا فالسؤال الذي يجب أن نناقشه هو: من في الدول العربية تنطبق عليه مثل هذه السمات أو الصفات كلها أو بعضها؟
تحمل الإجابة على هذا السؤال صعوبة كبيرة، ومرجع هذه الصعوبة يتمثل في حقيقتين، الأولى؛ هي استحالة أن تتوافر هذه السمات جميعها في فئة واحدة. والحقيقة الثانية, هي عدم الثقة في قدرة أي من هذه الفئات على تحقيق الإصلاح الشامل والكامل وفي استراتيجية واحدة ووفق خطة ز