أسدل الستار أمس على واحدة من أشد المعارك الانتخابية إثارة في تاريخ لبنان المعاصر، ألا وهي انتخابات جبل لبنان، التي عرفت تنافساً شديداً وتحولت إلى معركة فرعية قائمة بذاتها تلفت الانتباه ربما أكثر من المعركة الأم، ولذا سلط عليها من الاهتمام الإعلامي ربما أكثر مما سلط على كامل العملية الانتخابية التي جرت في عموم بلاد الأرز منذ التاسع والعشرين من الشهر المنصرم. ولا شك أن لكل هذا الاهتمام بما ستقوله صناديق اقتراع جبل لبنان أسباباً كثيرة، فهذه المنطقة هي مركز الثقل الانتخابي التقليدي للطائفة المسيحية في لبنان، وهي الطائفة التي رفدت لبنان بقيادات تاريخية عديدة. ولا شك أن المسيحيين اللبنانيين بالذات يلقون بكامل ثقلهم وراء ما يجري هناك لما يعلقونه من آمال كبيرة على ما ستسفر عنه، وخاصة أنهم يعانون من أزمة هوية سياسية بعد أن لم تعد في الواجهة منهم زعامات قوية قابضة على المشهد السياسي المسيحي، وأيضاً لما يقال عن تناقص أعدادهم في بعض نواحي هذه المنطقة لأسباب تتعلق بآثار الحرب الأهلية، أو لأسباب تنامي أعداد المسلمين في مقابلهم. هذا إضافة إلى اتساع الشقة بين التوجهات المسيحية المختلفة ومن أبرزها "التيار الوطني الحر" بزعامة عون، و"قرنة شهوان" أو "لقاء البريستول". وتجد في هذا الخضم المتلاطم انقسامات عائلة المر مثلاً فرصة للتعبير عن نفسها، كما تجد كل من كتلة الأرمن الطاشناق، والقوات اللبنانية، والكتائب، والشخصيات المتنفذة المسيحية المستقلة، كلها فرصة لتعويم نفسها وسط هذه الفسيفساء المسيحية التي تعيش الآن حالة إعادة تشكل حقيقية في دوائر الجبل التي تشمل الشوف وعالية – بعبدا والمتن الشمالي. أما الدروز فقد وجدوا هم أيضاً أنفسهم من جديد، خاصة في دائرة عالية – بعبدا يستعيدون بعض ذكريات صراعاتهم الداخلية ممثلة في جناحي كل من العائلة الجنبلاطية التي تتزعم الطائفة الآن، والعائلة المنافسة لها تقليدياً ممثلة في طلال أرسلان.
وليست شدة التنافس على مقاعد انتخابات جبل لبنان دليلاً فقط على أهمية هذه المنطقة في ميزان مراكز الثقل في البلاد، بل إنها أيضاً مؤشر على تعافي الجسد السياسي اللبناني بصفة عامة، بعد مروره بمحنة سياسية حقيقية ظن كثيرون أنه لن يخرج منها بأقل التكاليف. ودليل التعافي هنا واضح، وهو أن التحالفات والاستقطابات حتى في أشد الدوائر تنافساً وتدافعاً سياسياً هي في معظمها لبنانية بحتة وتتم لأول مرة دون وجود تدخل أو ضغوط خارجية واضحة. وربما يلزمنا القول هنا إن هذه ليست سابقة تسجل في تقاليد الممارسة السياسية اللبنانية، فلبنان شهد في ماضي أيامه فترات ذهبية أفرزت زعامات وطنية غير طائفية، وقع عليها الإجماع، دون استناد إلى انتماء من طائفة أو مذهب، وما زال في الذاكرة اللبنانية الكثير من صور وسيرة كل من فؤاد شهاب وكمال جنبلاط وكميل شمعون وسامي الصلح ورفيق الحريري وغيرهم ممن بنوا شرعيتهم ومشروعهم السياسي على الولاء للوطن اللبناني عامة وليس فقط للحزب أو الطائفة.
لا شك أن الانتخابات الحالية فرصة للبنانيين لكي يثبتوا للعالم أنهم قادرون على ممارسة حق الاختيار الحر لقياداتهم بأنفسهم، ودون وصاية أو تدخل من الخارج، وأنهم يستطيعون، مرة أخرى، ضرب المثل على الممارسة الديمقراطية، وعلى أن يكونوا نموذجاً يحتذى في منطقة تتجه يوماً بعد يوم نحو التغيير، وتكثر فيها الدعوات إلى الديمقراطية والمشاركة الشعبية. والعبر التي يمكن أن يستلهمها الجيران من الدرس اللبناني كثيرة، وما زالت أبواب الأمل مشرعة على مصراعيها للجميع.