لولا العيب والحياء لكان منطقياً أن يجرى استطلاع رأي لعينة كبيرة من مسؤولي الإدارة الأميركية للإجابة على السؤال: مع أي رئيس إيراني منتخب تريدون أن تتعاملوا؟ عندئذ سيسهل ربما على الإيرانيين أن يختاروا المرشح المفضل أميركياً لعله يفلح في فك هذه العقدة المزمنة والمستعصية. لكن هذا يفترض أن الأميركيين يعرفون أيهم الرجل المفضل، وأنهم يرحبون بأي أحد على الإطلاق، وأن لديهم إرادة حقيقية لتطبيع العلاقة مع إيران. أم أن الغريزة الأميركية لا تزال متغلبة على البراغماتية، وبالتالي فإن المطلوب إما نظام آخر أو حتى شعب آخر يتوسل الولايات المتحدة العودة إلى إيران لتدير شؤونها وتملي أهواءها كما كانت تفعل أيام الشاه.
ربع قرن مرّ على إقامة نظام الجمهورية الإسلامية وعلى تسلط رجال الدين على الحكم في إيران، ثلثا السكان شباب دون الثلاثين عاماً، أي أنهم من عمر الثورة الخمينية ولم يعرفوا نظاماً آخر سواها. ولعل "سياسة الاحتواء" الأميركية لم تنجح إلا في تعميق الضائقة الاقتصادية، وفي انطواء البلد على نفسه، لكن نجاحها الباهر يتمثل في شحذ العداء والحقد لدى هؤلاء الشباب حيال الولايات المتحدة.
حملة انتخابات 2005 خيضت على خلفية مكتومة أو مصرّح بها: حوار أو لا حوار مع أميركا؟ وكان واضحاً أن خيار "اللاحوار" لم يعد واقعياً، لئلا يقال إنه لم يعد متاحاً. وتكمن المفارقة في أن السؤال نفسه مطروح لدى الطرف الآخر، الأميركي، الذي يستطيع أن يواصل "اللاحوار" وهو يعرف أيضاً أنه لم يعد مجدياً، مثلما يستطيع أن يفتح حواراً "سرياً" يتخمه بالشروط والتعجيز، وهو يعرف أن ذلك بات مكشوفاً. ومنذ أصبح الأميركي جنباً إلى جنب مع الإيراني في العراق، باتت القطيعة ضرباً من العناد الذي لا ينتمي إلى السياسة، ولا إلى الدبلوماسية، من دون أن ننسى المصالح.
لذلك كان ولا يزال من غير المعقول احتلال العراق، حيث لإيران نفوذ فاعل، والانطلاق في تهديدات شتى لإيران وبالتالي لسوريا. كان ذلك من جانب الأميركيين أشبه بمن يستدعي "الإرهاب" وبشيء من الإصرار. وفي الوقت الذي يركز الأميركيون ضغوطهم على سوريا باعتبارها الحلقة الأضعف، فإنهم يحاذرون حتى الآن الاحتكاك بإيران وكأنهم يعتبرونها استحقاقاً مؤجلاً. لكن الملف النووي ساهم في تعقيد الحسابات والخيارات، بل إن التدخل الإسرائيلي ساهم ويساهم في تأجيج التوتر والاحتقانات. وعلى رغم أن العمل الحربي ضد إيران لم يعد الخيار الأول، كان الخيار البديل، وهو العقوبات الاقتصادية الشديدة -إضافة إلى عقوبات أميركية مفروضة أصلاً ومترافقة مع ضغوط سياسية متواصلة- سينعكس سلباً على المناخ الإقليمي غير البريء من رسوخ حال الفوضى والعجز في النظام العراقي الناشئ.
هذه المرة يبدو أن النظام الإيراني يعاود الاعتماد على هاشمي رفسنجاني لاجتياز العقبة الأميركية الكأداء، وفي ذلك إشارة بالغة الوضوح لواشنطن، لكن النظام المحافظ الذي يدعم ترشيح رفسنجاني ضد المرشحين المحافظين الأربعة لا يخفي أيضاً سعيه إلى وضع ضوابط للرئيس المقبل المنتخب. فالخيوط كلها مشدودة إلى مرجعية مرشد الجمهورية الذي لا يستطيع أي رئيس منتخب أن يتجاوز الخطوط التي يرسمها له. وكان رفسنجاني صريحاً جداً إذ وضع التطبيع مع أميركا في صلب خطابه الانتخابي، بل إنه بدأ منذ الآن وضع أوراقه على طاولة الحوار مع من لا يزال يسمى "الشيطان الأكبر".
في المقابل لا يزال استحقاق الحوار مع إيران يجول في أروقة الإدارة الأميركية متأرجحاً بين رغبات التطويع والانتقام وإغراءات "صفقة كبرى" اقتصادية- سياسية. ومع أن "الصفقة" تناسب بعض أوساط البزنس القريبة من إدارة الرئيس جورج بوش أو الموجودة داخلها، إلا أنها لا تزال تناقض العقلية التي زرعتها عصابة اليمين الجديد. لا شك أن تجنيب المنطقة ويلات حرب رابعة سيكون موضع ترحيب، ثم إن أي "صفقة" تنطوي على شروط إصلاحية ستكون خصوصاً موضع ارتياح الشعب الإيراني.