لماذا يشيخ الإنسان؟ ولماذا تظهر علامات الشيخوخة مبكرا على البعض قبل الآخرين؟ وهل لابد أن يكون الموت هو النهاية الحتمية للشيخوخة؟ وهل من الممكن وقف عجلة الشيخوخة، أم على الأقل إبطاؤها؟ أم أن سرعة واتجاه عجلة الزمن هي قدر محتوم، رسم مسارها منذ لحظة أن خلقنا في أرحام أمهاتنا؟ إجابات هذه الأسئلة، تقع إلى حد كبير ضمن مجال الأديان والعقائد، وفي نفس الوقت في مدى ونطاق العلوم المختلفة، سواء الإنساني منها أم البحت التجريبي.
ولذا سنقتصر في طرحنا القادم، على الجوانب الحيوية البيولوجية للشيخوخة، وما قد تحمله من إجابات للأسئلة السابقة، وغيرها من الأسئلة المتعلقة بالشيخوخة. فالشيخوخة كمرحلة إنسانية، تشكل بمظاهرها المتعددة والمختلفة، جزءاً مهما من تركيبة وديناميكيات المجتمعات البشرية. حيث تظهر من خلالها التغيرات الحيوية التي يمر بها الأفراد مع التقدم في السن، كما أنها تعكس أيضا الأعراف والتقاليد الاجتماعية والثقافية لتلك المجتمعات. ورغم تعدد مظاهر وجوانب الشيخوخة البشرية، لتشمل ضمن ما تشمل، الجانبين الاجتماعي الثقافي، والجانب الاقتصادي، يظل الجانب البيولوجي هو الأكثر غموضاً وعصيانا على الفهم. ولتبسيط هذا الجزء لابد أن نفرق بين شيخوخة الخلية، وبين شيخوخة الكائن الحي ككل. فحسب المراجع العلمية، تعرف شيخوخة الخلية على أنها انتقاص واضح في القدرة على الانقسام والتجديد. أما شيخوخة الكائن الحي، فتظهر في شكل تدهور واضح في قدرته على الاستجابة للضغوط البيئية والفسيولوجية، مع حدوث اختلال في توازن البيئة الداخلية داخل جسده، وزيادة تعرض أنسجته وأعضائه للأمراض. هذه العوامل الثلاثة، تدهور الاستجابة الخارجية مع الاختلال الداخلي وزيادة التعرض للأمراض، تؤدي في النهاية إلى فقدان الكائن الحي لقدرته على الاستمرار في الحياة. وهو ما يعني أن الموت والوفاة، هما النهاية الحتمية للعلميات البيولوجية المصاحبة للشيخوخة.
هذه الحقيقة على بديهيتها، لا يتفق عليها الجميع، وبالتحديد من عرفوا بعلماء الشيخوخة البيولوجية (Biogerontologists). ويجب علينا هنا أن نفرق بين طب الشيخوخة (Geriatric Medicine)، وهو فرع الطب المعني بدراسة وتشخيص وعلاج الأمراض التي تصيب المسنين، وبين علم الشيخوخة (Gerontology) الذي يعنى بدراسة ميكانيزمات وعمليات الشيخوخة نفسها. ويقع ضمن علم الشيخوخة العام, تخصص الشيخوخة البيولوجية، والذي يختص علماؤه بدراسة العمليات البيولوجية خلف الإصابة بالشيخوخة. هذه المجموعة من العلماء المتخصصين جدا، ترى أن الشيخوخة ليست عملية طبيعية أو حتمية وقدرية، بل هي مرض يمكن علاج أسبابه، أو على الأقل التخفيف من أعراضه. ويأمل هؤلاء أن يحمل المستقبل معه فهما أكثر لطبيعة العمليات البيولوجية، التي تؤدي وتترافق وتنتهي بالشيخوخة، وهو ما سيتيح الفرصة للتدخل العلمي ووقف مسيرة تلك العمليات، أو إصلاح الضرر والتلف الناتجين عنها، أو حتى عكسهما.
في هذا السيناريو الأخير، يمكن أن نجد الشخص يسير في مراحل عمره بطريقة عكسية أو في "عكس الاتجاه". فمثلاً, شخص في الستين من عمره، يصبح بعد مرور عقدين من الزمان في الأربعينيات! أو في فرض آخر، يمكن للمرء أن يختار سناً ما – سن العشرين مثلا- ليظل دائما في الحالة الصحية والجسدية والشكلية المصاحبة لهذه السن. هذه الاحتمالات، وما تطرحه من اختلاف في نوعية وشكل ومفهوم الحياة الإنسانية بين الآن وبين المستقبل، يمكننا أن نشبهه بالفروق بين ركاب القطارات وبين مالكي السيارات. فنحن جميعا حاليا نستقل قطاراً، يمر بنا على محطات العمر المختلفة، وفق جدول زمني. ولكن إذا ما نجح علماء الشيخوخة البيولوجية في تحقيق أحلامهم السابقة، فسنصبح جميعا من ملاك السيارات. وسيصبح حينها من الممكن لنا أن نوقف عجلة الشيخوخة، أو على الأقل أن نبطئها، أو ربما حتى أن نسير بها في الاتجاه العكسي.
مثل هذه الأحلام لا يمكننا بسهولة أن نتجاهلها، أو أن نتجاهل احتمالات تحقيقها بشكل أو بآخر. فحاليا وبالفعل، أظهرت التجارب المعملية أن العوامل الوراثية والبيئية تؤثر بشكل مباشر في فترة طول العمر. وبما أن الإنسان يقترب يوما بعد يوم من إمكانية التحكم الكامل في تلك العوامل، سيصبح نظريا من الممكن التأثير غير المباشر على فترة طول العمر. بل المثير أن هذه العملية قد بدأت تحدث بالفعل، وأصبح في إمكان العلماء حاليا، التحكم في طول عمر بعض الكائنات الحية باستخدام أساليب غير مباشرة. فعلى سبيل المثال، اكتشف العلماء أن خفض السعرات الحرارية بمقدار ثلاثين في المئة، ينجح في إطالة أعمار كل من فطر الخميرة، وبعض الديدان والفئران، وحتى الثدييات العليا مثل القردة. هذا الأسلوب الذي يعرف بتحديد السعرات (Calorie Restriction)، تمت تجربته بالفعل على الإنسان، وأظهر قدرته على إبطاء التشيخ وعلاماته البيولوجية. ويفسر العلماء هذه الظاهرة على أساس أن خفض الاستهلاك اليومي من السعرات الحرارية، يمنع تكون أنسجة دهنية، ويحافظ على