لقد انزلقت أوروبا إلى لجة أزمة متعددة الوجوه, في أعقاب الرفض الهولندي الفرنسي لمسودة الدستور الأوروبي الجديد. وفي عمق هذه الأزمة وجذورها, يكمن الغضب الشعبي العارم إزاء تردي الأوضاع الاقتصادية الداخلية والاقتصادية للقارة بأسرها. ومن رأي المحافظين الجدد أن السبيل الوحيد لإخراج القارة من أوضاعها الاقتصادية الراهنة, هو تفكيك نظام الفوائد والمكاسب الاجتماعية الذي ساد القارة لعدة عقود, وحدد مفهوم أوروبا لجودة ومستوى الحياة, ومجتمع المسؤوليات الاجتماعية. كما يرى هؤلاء أنه لابد من رفع القيود التي تعيق حرية السوق, حتى تكون المنافسة فيه حرة وخالية من أية عراقيل أو قيود. وإذا ما سلكت أوروبا هذا الطريق –على حد قول المحافظين الجدد- فإن اقتصاداتها ستشهد نمواً أكيداً, وكذلك تزدهر حياة شعوبها.
لكن من الجانب الآخر من الحوار, يرى الاشتراكيون أن نظام السوق المنفلت المبني على النموذج والتصور الأنجلو- أميركي, إنما يعمل على مكافأة الأغنياء على حساب الطبقة العاملة والفقراء, علاوة على إفرازه لنظام اجتماعي أكثر سوءاً ولؤماً وحرماناً. بهذه المناسبة يجدر بالذكر أن الناخبين الألمان في منطقة "ويستفاليا" الواقعة شمالي نهر الراين, قد أسقطوا مرشحي الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الانتخابات الإقليمية التي جرت هناك مؤخراً, احتجاجاً على ما رأى فيه الكثيرون, تشدداً ومزايدة من المستشار الألماني غيرهارد شرودر, في سعيه لتبني تشريعات إصلاحية اقتصادية على نمط اقتصاد السوق الأميركي, على حساب تفكيك برامج الرعاية الاجتماعية الحكومية طويلة الأمد. ما يكمل هذه القصة هو أن منطقة ويستفاليا, تعد معقلاً تاريخياً للمرشحين الاشتراكيين الألمان.
ومما يثير الغرابة فيما يتصل بالمخاوف التي عبر عنها الأوروبيون إزاء مسودة الدستور الجديد, هو أن هذه المخاوف لا تتمحور حول الدستور الأوروبي بحد ذاته, بقدر ما تتمحور حول مستقبل الرأسمالية نفسها, وأن هذه المخاوف لا تقتصر على الأوروبيين ولا القارة الأوروبية وحدها. ففي أوروبا تزداد أعداد المتسائلين عما إذا كان نظام السوق الحر, أم نظام السوق الاجتماعي الحر, هو الطريق الأمثل لرسم المستقبل الاقتصادي للقارة؟ إلى ذلك, فقد أصبح الاستفتاء الفرنسي الهولندي على مسودة الدستور الأوروبي, منبراً تحدد عبره الشعوب خياراتها وتطلعاتها وتحيزاتها الاقتصادية, وتعرب من خلاله عن هواجسها ومخاوفها.
وفي الواقع فإن ما كشفت عنه تطورات الأحداث في الأسبوع الماضي, إنما يذكر بما حدث قبل عشرين عاماً, عندما أعلن الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف عن سياسات الـ"بريسترويكا" الشهيرة, في استجابة منه لتنامي الضغوط الشعبية وحالة التململ والتذمر التي سادت الاتحاد السوفيتي, وبلدان شرق أوروبا التابعة له وقتئذ. وكان جورباتشوف قد عقد آمالاً كبيرة على البريسترويكا في أن تحفز عملية البحث الذاتي, وأن تسهِّل إعادة تقييم إخفاقات ونقائص التجربة الشيوعية. وكان في نية جورباتشوف أن ينقذ الاشتراكية, عن طريق إصلاحها, وتخليصها مما لحق بها من ممارسات مسمومة, جعلت من التجربة السوفيتية منذ انطلاقتها الأولى, موضع سخرية وتناقض مع الآيديولوجية الماركسية نفسها. بيد أن إصلاحاته وتصوراته تلك, جاءت متأخرة جداً على نظام كان يلفظ أنفاسه الأخيرة, ولم يكن ثمة بد من انهياره الشامل الوشيك.
وبمناسبة الذكرى العشرين لإعلان البريسترويكا في ربيع العام الجاري, استضاف الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف, "المنتدى السياسي الدولي العالمي" بمدينة تورينو الإيطالية. وقد ضم المنتدى, زعماء دوليين سابقين وحاليين, في جو من الاحتفال الممزوج برغبة في تشريح التجربة السياسية عقب وفاتها. وبما أن جورباتشوف قد طلب مني إلقاء كلمة رئيسية في الحفل, حول أوضاع أوروبا والعالم عموماً, عقب مضي عقدين على إطلاق سياسة البريسترويكا, التي شكلت بداية انهيار النظام الشيوعي في كل من روسيا ودول شرق ووسط أوروبا التابعة له... ففيما يلي أهم النقاط التي شملتها كلمتي تلك:
قلت إنه وإثر انهيار حائط برلين وموت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق, انفردت الرأسمالية بدور البطولة العالمية بلا منازع, وتسنى لها فرض تصوراتها وإرادتها على العالم بأسره. وكان من رأيي أنه ربما حانت اللحظة التي أصبح فيها محتماً على الرأسمالية, أن تشرع في إدارة حوار ذاتي, وتقييم ومراجعة لصورة العالم التي شكلتها وبنتها على نموذجها هي, خلال السنوات التي أعقبت انهيار الشيوعية الروسية. وكم هي كالحة هذه الصورة في تمثلاتها وتجلياتها الواقعية! فعلى الرغم من النمو الفلكي الذي حققته الأرباح العالمية, إلا أن هناك نحو 89 دولة, انحدرت أوضاعها الاقتصادية والأحوال المعيشية لمواطنيها, إلى مستوى أسوأ بكثير مما كانت عليه في بداية عقد التسعينيات, الذي أمسكت فيه الرأسمالية بتلابيب العالم كله. يذكر أن الرأسمالية كانت قد وعدت بأن تعمل العولمة على تضييق الهوة الفاصلة بين الأغنياء والفق