أعلن المجلس الأوروبي في اجتماعه خلال هذا الأسبوع عن تمديد موعد المصادقة على معاهدة الدستور الأوروبي وتجميد العمل به في الوقت الراهن، كما أعلن عن الدخول في فترة تأمل عقب تصويت الناخبين الفرنسيين والهولنديين بـ"لا" على ذلك الدستور. لكن السؤال المطروح هو: من سيقوم بعملية التأمل تلك؟ لم يشر، مع الأسف، البلاغ الذي صدر عن المجلس الأوروبي إلى الطريقة التي سيتم بها إشراك 455 مليون مواطن أوروبي في نقاش جريء يستطلع آراءهم حول مستقبل أوروبا. وكل ما أخشاه أن يشعر العديد من الأوروبيين بأن التصريحات الصادرة هذا الأسبوع إنما ترمي إلى إخراجهم من دائرة النقاش في الوقت الذي يواصل فيه القادة الأوروبيون مناوراتهم خلف الكواليس بحثاً عن طريقة للاستمرار في التعاطي مع الإشكالية الأوروبية دون الالتفات إلى رأي الجمهور.
غير أنه لكي لا يتوقف البناء الأوروبي لابد من توافر خطة طموحة ومدروسة بعناية تهدف إلى إشراك سائر المواطنين في عملية التأمل. أما في حال عدم تحقق ذلك فسوف تتعثر المسيرة الأوروبية نتيجة استنكاف القادة عن إطلاق أية برامج وسياسات جديدة خشية تعرضها للفشل بعد أن ترفضها الشعوب الأوروبية. ومن شأن تكميم أفواه المواطنين الأوروبيين في هذه اللحظة الحاسمة وعدم الإصغاء إلى آرائهم أن يرسل إشارات سلبية تفيد ببساطة أن النخب الحاكمة في أوروبا لا تكترث لرأي الناس، لا سيما إذا ما اختلف هذا الرأي مع سياسة القادة الأوروبيين. وبالطبع لن يسهم ذلك إلا في تعاظم الإحساس بعدم الثقة والعزلة وتعزيز شكوك الجمهور بأن رأيه ليس في الحسبان.
وتشكل الأزمة الدستورية الأوروبية الحالية فرصة تاريخية نادرة إذا ما تم انتهازها بسرعة وحزم، وإلا فستفقد التجربة الأوروبية الكثير من زخمها واضعة بذلك مستقبل أوروبا والعالم على المحك. فهل ستتحول إذن فترة التأمل التي دعا إليها المجلس الأوروبي إلى نقاش أوروبي واسع النطاق يجري في كل حي ومنطقة ويتطرق إلى آمال الشعوب وأحلامها وانشغالاتها ومخاوفها بشأن مستقبل أوروبا؟
وفي هذا الصدد يمكن أن تشكل أزمة الهوية المماثلة التي واجهت الولايات المتحدة قبل أربعين سنة وتجربتها في معالجة التمرد الشعبي على السياسات الحكومية السائدة حينها فرصة لاستخلاص العبر. لقد بلغ السخط الشعبي ذروته في أميركا باندلاع الأحداث الشهيرة في 1968 عندما زج القادة السياسيون البلاد في أتون حرب فيتنام دون إجراء حوار أو نقاش مع الجمهور. ونتيجة لذلك انقسم الناس حيال الحرب وتأججت مشاعر الاستياء وتم استقطاب الرأي العام وظهرت مخاوف حقيقية من احتمال تمزق النسيج السياسي للبلاد. وفي نفس الوقت كان الكثير من الأميركيين يجهلون ما يجري في فيتنام أو سبب شن حرب بعيدة كل البعد عن أميركا. ولأن الجمهور لم يشرك أبداً في النقاش حول الحرب أو الأسباب التي دعت إلى خوضها، فإن الكثيرين بدؤوا يبدون شكوكهم حول الأهداف الحقيقية للحكومة من وراء تلك الحرب.
وبعد ذلك وفي حركة مفاجئة قام الطلبة والأساتذة في جامعة كولومبيا بنيويورك بتنظيم ما أصبح يطلق عليه "حلقات التثقيف" حيث تزاحم المئات من الناس في قاعات المحاضرات وعلى المدرجات داخل الحرم الجامعي أياماً طويلة لمناقشة آمالهم ومخاوفهم وانشغالاتهم إزاء الحرب الدائرة في فيتنام، كما اجتمعوا لتبادل المعلومات وتثقيف بعضهم بعضاً حول الموضوع. وقد دعي أكاديميون متخصصون في الشؤون الفيتنامية لتقديم المعلومات الضرورية من أجل توعية الناس وتعريفهم بتاريخ فيتنام وكيف أصبحت أميركا متورطة في الحرب هناك.
وسرعان ما انتشرت حلقات التثقيف تلك في جميع أنحاء أميركا. وبدأ الناس يجتمعون في المدارس والبلديات والمنازل لمجادلة بعضهم بعضاً ولتمحيص السياسة الخارجية الأميركية. والهدف من وراء ذلك هو تكوين صورة دقيقة عن الوضع وبناء توافق أو على الأقل إيجاد أرضية مشتركة حول أفضل السبل لمعالجة الأزمة التي ما فتئت تتفاقم لتزحف على البلاد بأكملها مهددة بتقويض الهيكل السياسي للجمهورية. وفي خضم ذلك تم استدعاء العديد من المسؤولين إلى تلك الحلقات التثقيفية ليصغوا إلى صوت الجماهير. إن تلك الحلقات التثقيفية التي عمت البلاد طولا وعرضا كانت تشكل في جزء منها اجتماعات دراسية، وفي جزء آخر جلسات للعلاج أو منابر للتعبير عن ديمقراطية القواعد الشعبية التي انتزعت المبادرة من أيدي البيت الأبيض والكونجرس الأميركي ونخبة البنتاجون لتمسك بزمام عملية التداول والنقاش حول موضوع الحرب. كانت الحلقات التثقيفية منعطفا حاسما في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية، فبدلا من الركون إلى التفسيرات الرسمية والقبول بتصريحات المسؤولين، قام جمهور مدرك لحجم قوته بقلب المعادلة والشروع في توجيه النقاش بعيداً عن الأطروحات الرسمية ليصب حول مستقبل الحرب في فيتنام.
وتدفعنا التجربة الأميركية للتساؤل حول ما إذا لم يكن الوقت قد حان لكي تقوم أوروبا بتنظيم حلقتها التثقيفية الكبرى لتدارس مستقبلها. وفي هذا الشأن يتعين على منظمات المجتم