لا تبرز فلسفة الليبرالية في العالم العربي المعاصر كتعبير عن ولادة روح فردية قوية ومستقلة ومبادرة بالفعل بقدر ما تعبر عن خيبة أمل قسم من الرأي العام بأنظمة حكم انبثقت خلال نصف القرن الماضي وفرضت نفسها باسم الدين أو القومية أو الاشتراكية واتسمت بما يشبه عبادة الدولة وتقديس دورها الاجتماعي على حساب الفرد وحريته واستقلاله وكرامته. ولذلك فهي لا تبدو كفلسفة أوسع من الديمقراطية ولكن كتيار فكري مكمل لها أو كالجناح المغالي في الحركة الديمقراطية.
ومن يقرأ الأدبيات السياسية العربية الأحدث يدرك بسهولة الاختلاط العميق الذي يسيطر على الثقافة السياسية العربية في ما يتعلق بمفهومي الديمقراطية والليبرالية وأحياناً عن استخدامهما بمعنى واحد. بيد أن الأمر لا يتوقف على مجرد الخلط بين المفهومين وعدم إدراك الفرق بينهما وإنما يذهب أبعد من ذلك فيطابق بين الديمقراطية والليبرالية أو ينزع إلى تفسير الديمقراطية تفسيراً ليبرالياً. ولا يحصل ذلك بسبب معرفة قيم الليبرالية نفسها وإنما نتيجة الاعتقاد بأن هذه القيم هي جزء لا يتجزأ من الديمقراطية أي من تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع الأفراد بوصفهم أفراداً أحراراً وأسياد أنفسهم خارج أي إكراهات مجتمعية أو حكومية. ومن نتائج هذه المطابقة السلبية والمضرة بالديمقراطية نزوع من يطلقون على أنفسهم اسم الليبراليين العرب، وانطلاقاً من جعل الحرية الفردية قيمة مقدسة والقيمة الأولى بل أحياناً الوحيدة للنظام الاجتماعي ككل وليس في الممارسة السياسية فحسب، إلى التضحية بقيم أساسية لا تستقيم الديمقراطية العربية من دون احترامها ولن يكون لها أي أمل في الوجود مع الاستهتار بها. ومن هذه القيم ما هو نتاج الخبرة الإنسانية جميعا مثل قيم العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية وتكافؤ الفرص الفعلي والتضامن الاجتماعي. ومنها، بالنسبة للمجتمعات العربية التي لم تنجح بعد في الخروج من سياق الهيمنة الاستعمارية، القيم الوطنية المرتبطة بمهام تحقيق أو حماية الاستقلال والسيادة الوطنية التي ركزت عليها النظم السابقة وبشكل خاص تجاه الدول الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة وأوروبا. ومنها ما يتعلق بمسائل التأكيد على الهوية العربية وما ارتبط ويرتبط بها من نزوعات إلى بناء مشاريع الوحدة أو الاتحاد أو التعاون الإقليمي الخاص بين البلدان العربية. ومنها أيضا وأحياناً التضامن مع قضايا الأمة العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية. ويرتبط هذا النزوع عند الليبراليين العرب الجدد بالتخلي عن هذه القيم الإنسانية العميقة وفي مقدمها التطلعات الإقليمية والوطنية بتأكيد قيم احترام التنوع العرقي والديني والتركيز على قضايا المعيشة وتحسين مستويات الدخل والتنمية والتعاون مع الدول الأجنبية من دون إيلاء اهتمام كبير لمسائل السيادة والحساسيات الشعبية التاريخية. اليوم لم تعد الديمقراطية رديفا لليبرالية التي تتماهى مع نظريات التكيف مع السوق العالمية ونظريات العولمة الجديدة الخاضعة لهذه السوق ومنطقها كما تتماهى مع التخلي عن الانتماءات والالتزامات الجمعية الوطنية أو الحضارية لحساب الاندماج والتفاعل الفردي الحر مع هذه السوق، أي في الواقع مع تحويل الجميع إلى مستهلكين أو إلى تحريرهم من جميع القيود الفكرية والسياسية والمجتمعية التي تمنعهم من هذا التفاعل المباشر والحر. إنها تتحول أكثر فأكثر إلى نموذج مناقض تماما لليبرالية وتؤسس لرؤية جديدة تجعل من التحكم بمنطق السوق ورفض الخضوع لمعاييره وحدها وللالتزام الأخلاقي والسياسي قاعدة لبناء حكم صالح معياره الرئيسي الاتساق الاجتماعي والتضامن الإنساني في ما وراء حدود الدول. وهذا يعني أن الحريات الفردية والجماعية صلب الديمقراطية وغايتها لكنها لا تتحقق من دون تأمين شروط أخرى. كما أن هذه الحريات التي تشكل جوهر الديمقراطية لا تنفصل عن القيم الإنسانية ولا يمكن النظر إليها بشكل تجريدي يفصلها عن الإرث الثقافي العالمي ولا عن القيم الخصوصية التي تعكس المسارات الخاصة بالمجتمعات المختلفة وظروف تطورها. وهذا ما يبرر الحديث بالفعل عن نماذج مختلفة لتطبيق الديمقراطية منها نموذج الديمقراطية الاجتماعية ومنها نموذج الديمقراطية الإسلامية التي نتوقع أن تزدهر في العالم العربي كما حصل مع الديمقراطية المسيحية وعلى شاكلتها في أوروبا الغربية ومنها أيضا نموذج الديمقراطية الليبرالية التي تقدم أفضل مثال عليها الحالة الأميركية. وهذا يعني أن هناك، في ما وراء الهياكل الإجرائية وآليات ممارسة السلطة التي تجسد الديمقراطية ولا تقوم هذه إلا بها رؤى مختلفة ومتباينة لطبيعة الأهداف والمهام التي يتعين على الديمقراطية القادمة أن تعمل عليها وتقوم بتنفيذها. فالديمقراطية الاجتماعية تعتبر التحويل الديمقراطي وإعادة إدخال الشعب في السياسة وإقامة سلطة تعددية على أسس الشرعية الانتخابية هو وسيلة من أجل تحقيق مساواة أكبر بين الأفراد أمام القانون وفي مجالات الحياة الاجتماعية وتكافؤ الفرص و