لا يصدق كثير من العرب أن هناك حدوداً لقدرة الولايات المتحدة على تسيير شؤون العالم وفق ما تهواه، فالصورة النمطية السائدة في بلادنا أكثر من أي منطقة أخرى هي أن واشنطن تحكم العالم، وأن رئيسها هو الحاكم الأعلى. وهذه الصورة التي باتت أقوى من الواقع وما يحدث فيه، هي جزء من عالم المؤامرة الذي يعيش فيه كثير من العرب، ومن دون صورة كهذه، لا يسهل اعتبار العولمة أمركة للعالم أو شكلاً جديداً للإمبريالية. فهذه صورة ضرورية لنمط ذهني شائع عربياً يبحث عن مشجب خارجي يعلق عليه أخطاءنا وخيباتنا. وأصحاب هذه الذهنية هم أكثر من فاجأهم تراجع الولايات المتحدة عن إصرارها السابق على رفض التمديد للمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية د. محمد البرادعي لفترة ثالثة. هذا النوع من المفاجأة يُحدث صدمة تدفع إما إلى ارتباك لبعض الوقت، أو إلى تفسير لا يختلف في مضمونه عن الموقف المصدوم.
ولذلك وجدنا من فسر التراجع الأميركي بأنه نتيجة صفقة عقدها البرادعي مع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس خلال لقائهما في واشنطن في 9 يونيو الجاري عشية إعلان هذا التراجع. ولأن الخلاف الأساسي بين البرادعي والإدارة الأميركية هو على كيفية معالجة الملف النووي الإيراني، فلابد أن يكون هو الذي تراجع عن تحفظه على إحالة هذا الملف على مجلس الأمن قبل استنفاد كل فرص الحوار.
غير أن البرادعي لم يكن في حاجة إلى تغيير موقفه وخيانة ضميره المهني لكي يبقى في موقعه، حتى بافتراض أنه مستعد لذلك. فاستمراره كان مضموناً سواء وافقت الولايات المتحدة أو لم توافق، ولذلك فإن تغيير موقفها تجاهه لم يغير شيئاً إلا التمديد له بالإجماع.
ولذلك فنحن إزاء حالة بالغة الدلالة على حدود قدرة القوة الأعظم على التحكم في العالم بوجه عام, حالة لا تقتصر دلالتها على هذه المنطقة الدولية. فلم تتراجع واشنطن عن موقفها ضد البرادعي, إلا لأنها أخفقت في تأمين أغلبية في مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية ترفض التمديد له. ويعني ذلك أنها لم تتمكن من فرض إرادتها على الدول الأعضاء معها في هذا المجلس، وعددها 34 دولة. ومن بينها دول صغيرة ومتوسطة رفضت الامتثال للأوامر التي يظن كثير من العرب أن الرئيس الأميركي يصدرها، فلا يناقشه فيها أحد. ووصل الأمر إلى حد أنه إذا لم يُعقد مؤتمر قمة أو أي اجتماع عربي في موعده فلابد أن تكون الولايات المتحدة هي التي منعت عقده. ولماذا نذهب بعيداً، فقبل عدة أسابيع أنارنا بعض العرب بتفسير عبقري لغياب معظم القادة العرب عن القمة العربية-اللاتينية التي استضافتها البرازيل، وهو أنهم امتثلوا لرغبة أميركية سامية. والطريف أن أصحاب هذا التفسير اللامع لم يلاحظوا أنه بين الحضور العربي القليل على المستوى الرئاسي كان رئيسا العراق والسلطة الفلسطينية. وهما الأكثر تعرضاً للاتهام بأنهما "صُنعا" في واشنطن. ولا يضع جهابذتنا معهما في هذا المستوى الرفيع إلا الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الذي يعتبرونه "رائد صنائع واشنطن"!
ومع ذلك فلنبق مع عجز واشنطن عن تغيير موقف أعضاء مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية. فقد أصرّت أغلبية ساحقة في هذا المجلس على التمديد للبرادعي، ويعني ذلك أن الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة لم تكن مجدية. ولدينا مؤشر واضح على أنها كانت تعرف تماماً أن موقفها ضد البرادعي مرفوض، وهو امتناعها عن طرح موضوع التمديد له للاقتراع السري في أي من الاجتماعات الأخيرة.
ولا عجب في ذلك، لأن العالم أكثر تعقيداً من أن نستطيع اختزاله في قوة أعظم تحكمه و190 دولة تمتثل لأوامرها. فهذا تبسيط يناقض واقع الحال في عالم لم تكن نهاية العصر الاستعماري فيه خالية من كل معنى. فقد كرست معارك الاستقلال والتحرر الوطني قيماً ورسخت قواعد في القانون الدولي والعلاقات الدولية يصعب تقويضها حتى إذا كانت الدولة الأعظم تتمتع بقوة لا سابقة لها في التاريخ.
فإذا كنا، في العالم العربي، قد فشلنا في تغيير السياسة الأميركية تجاه قضايانا الكبرى وفي مقدمتها قضية فلسطين، فلأننا لا نمتلك أياً من مقومات القوة اللازمة لممارسة ضغط فاعل في مواجهة النفوذ الهائل الذي يتمتع به أنصار إسرائيل في واشنطن. وهذا يرجع إلى ضعف أدائنا، وليس إلى القوة الأميركية، وليس فشلنا هذا إلا واحداً من إخفاقات كثيرة منينا بها على كل صعيد.
فإذا نظرنا إلى قدرة الدولة الأعظم من هذه الزاوية، نجد أن عجزها عن إقصاء البرادعي من وكالة الطاقة الذرية ليس الحدث الأول الذي يوضح أن هذه القدرة ليست غير محدودة. فقد حدث شيء من ذلك قبيل الحرب على العراق عندما عجزت واشنطن عن استصدار قرار من مجلس الأمن يعطي مشروعية لهذه الحرب. وكان أهم ما في ذلك المشهد الذي انتهى بتسليم واشنطن بالفشل واضطرارها إلى شنّ حرب خارج نطاق الشرعية الدولية، هو أنها عجزت عن تغيير موقف دول جدّ صغيرة مثل غينيا وأنغولا والكاميرون وتشيلي، بل ودول حليفة مثل باكستان. وكان في مقدمة معارضيها في مجلس الأمن وخارجه دولة ما زالت تعتمد ع