لقد بات من المعروف لدى الخبراء في الشؤون العراقية أن إدارة الرئيس بوش فشلت في الإعداد الجيد والدقيق لفترة ما بعد الحرب على العراق، وهذا ما بدأت تكشفه بعض الوثائق التي تنشرها الصحافة كتلك المذكرة التي وجهها مسؤولون بريطانيون إلى رئيس الوزراء توني بلير يحذرونه فيها من أن فترة الاحتلال التي ستعقب الحرب يمكن أن تدوم طويلا وأن تكاليف إعادة الإعمار ستكون باهظة. كما أوضحت تلك المذكرة القصور الذي اعترى عملية التخطيط للحرب من قبل الولايات المتحدة، خصوصا أنها لم تكن لديها أية رؤية واضحة عن واقع الأمور بعد الحرب وما تتطلبه عملية البناء من تعزيز العملية السياسية وإفساح المجال أمام كافة العراقيين للمشاركة دون تغليب النزعات الطائفية أو إقصاء فئات من القوى السياسية السابقة ذات الخبرة والتجربة في إدارة البلاد. وهي الأخطاء ذاتها التي يحاول كتاب "النصر الضائع" لمؤلفه لاري دايمند أن يعرضها.
وفي هذا الصدد يرى مؤلف الكتاب أن الاضطرابات والمشاكل التي عمت العراق بعد انتهاء الحرب راجعة إلى "الإهمال الكبير" الذي طال عملية التخطيط لفترة ما بعد الحرب وما تلاها من أخطاء متكررة أفضت في النهاية إلى الوضع العراقي الحالي. وهو وضع مرشح للتفاقم مع تسلل عناصر أجنبية من الحدود السورية وتوافد المزيد من المقاتلين مما يهدد بتحويل العراق إلى مرتع للإرهاب يهدد أميركا ويقوض مشروعها في المنطقة. ولا يكتفي الكتاب بسرد ما تنطوي عليه عملية إقامة الديمقراطية في العراق من تحديات جسيمة تتراوح من إعداد البنية التحتية لإجراء الانتخابات إلى معالجة القضايا السياسية والفلسفية المتعلقة بصياغة الدستور العراقي الجديد، بل يقدم تحليلات متبصرة حول الحسابات الخاطئة التي تورط فيها البيت الأبيض والبنتاجون طيلة فترة ما قبل الإطاحة بصدام حسين وحتى بعدما وضعت الحرب أوزارها.
ويُنصح بقراءة هذا الكتاب كل المهتمين الذين يريدون معرفة لماذا أدى الانتصار السريع للولايات المتحدة في الحرب إلى الصعود المطرد في قوة المتمردين حتى أصبح لا يمر يوم دون أن نسمع عن وقوع انفجارات وسقوط ضحايا. كما يفيد هذا الكتاب في معرفة لماذا فشلت الانتخابات العراقية في الحد من دوامة العنف الذي تزحف باتجاه حرب أهلية لا تبقي ولا تذر على شاكلة الحرب الأهلية اللبنانية. وبالرغم من أن السيد دايمند كان معارضا للحرب في بدايتها، غير أنه يذكر لنا كيف وافق فورا على الذهاب إلى هناك عندما تلقى في خريف 2003 اتصالا هاتفيا من صديقته القديمة وزميلته في جامعة ستاندفورد وهي كوندليزا رايس تطلب منه أن يقضي بضعة أشهر في العراق كمستشار لسلطات الاحتلال الأميركي. وقد وافق على شد الرحال إلى بلاد الرافدين رغم حجم التحديات التي كانت تنتظره بسبب إيمانه الراسخ بأنه لو فشلت الولايات المتحدة في جهود ما بعد الحرب لإعادة بناء العراق وإقامة الديمقراطية "فإن العراق سينحدر إلى وضع أسوأ مما كان عليه في السابق، إذ سيتحول إلى مأوى للإرهاب العالمي وربما سيطرح تهديدا حقيقيا على الأمن القومي الأميركي".
لكن ما أن تسلم دايمند عمله في العراق وباشر مهمة مساعدة سلطات الاحتلال في اتخاذ القرارات الصائبة حتى تبين له أن الخطة الأميركية للانتقال السياسي في العراق يشوبها الكثير من النقص وتعتريها حزمة من التناقضات حيث لاحظ أن هناك تباينا فاضحا بين ما تعلنه أميركا من طموح في إحلال الديمقراطية وبين نزوعها للاستفراد بالقرارات وسيطرتها الأحادية على مجمل الأمور في العراق. وفي هذا الصدد يقول المؤلف "إن الأميركيين لم يصغوا بعناية إلى الشعب العراقي أو إلى الرموز البارزة التي يحترمها العراقيون، لهذا فإننا لم نكسب أبدا ثقتهم". ويرى المؤلف أن اللوم يقع بالأساس على كبار المسؤولين الأميركيين بمن فيهم الرئيس بوش نفسه الذي لم يستعد بما يكفي لخوض الحرب على العراق. ويذكرنا السيد دايمند بأن الإدارة السيئة والمريعة التي اتسمت بها خطط الحرب بعد الاحتلال لم تكن بفعل ضيق في الوقت أو ضرورة ملحة في التصرف الفوري، بل ترجع هذه الإدارة السيئة إلى تجاهل المسؤولين في البنتاجون، في حمأة انشغالهم بالإطاحة بالنظام، لبعض التقارير التي كانت تحذر من مغبة عدم الاستعداد الجيد. وبالرغم من أن تلك التقارير كان يجري إعدادها من قبل خبراء مطلعين على الأوضاع، إلا أنها غالبا ما كانت تتعرض للتهميش والإبعاد. ولعل من بين تلك الأخطاء الأخرى التي تورطت فيها الإدارة الأميركية موافقة الرئيس بوش على خطة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد التي تقضي بدخول العراق بعدد صغير من القوات لا يتعدى 150 ألف جندي، وذلك رغم تحذيرات الخبراء من أن مثل هذا العدد المتواضع من القوات لن يكفي في مرحلة ما بعد الحرب، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمتطلبات ضمان استتباب الأمن والقضاء على المقاومة. وقد انكشفت عورة القوات الأميركية عندما وقفت عاجزة أمام عمليات النهب الواسعة للمتاحف العراقية عقب سقوط بغداد. لكن المؤلف يقول إنه لو قامت الولايات المتحدة بنش