كم هو صارخ وحاد هذا التناقض. ففي العراق حيث وعدت الولايات المتحدة الأميركية بغرس الحرية وتحقيق الاستقرار, لا تزال تتصاعد عمليات العنف, ولا يزال يصل عدد ضحاياها وقتلاها إلى الآلاف شهرياً, على رغم مرور أكثر من عامين على الغزو الأميركي. أما إيران التي صنفت ووصفت بأنها دولة دينية متزمتة, ورفعت بسببها واشنطن عصا التهديد مراراً, بتغيير نظامها الحاكم, فقد سعت إلى "تغيير نظامها" انتخابياً, وذلك بانتخاب رئيس لها بأغلبية ساحقة, يقف في صفوف عامة الشعب في إحدى الضواحي الفقيرة في إيران! وفيما يبدو حتى الآن, فإن تغطيات الإعلام الغربي, تسلط الضوء على قضية الأسلحة النووية الإيرانية, في إطار اهتمامها بخبر فوز محمود أحمدي نجاد, إلى جانب تركيزها على مصير ومستقبل العلاقات الأميركية- الإيرانية.
وفيما لو كان "المحافظون الجدد" الإيرانيون هم من سيتسلمون زمام السلطة في طهران, فإن من المفترض ألا يكون لأقرانهم في واشنطن, ما يقلقون عليه أو يشكون منه. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد أجرت الكثير من التغييرات السريعة المتواترة في مواقفها في الماضي, إلا أنه يظل للأيام وحدها, أن تبين ما إذا كانت واشنطن على استعداد, للبدء بتطبيع علاقاتها مع رئيس, كان واحداً بين أولئك الإسلاميين الثوريين, الذين احتلوا السفارة الأميركية في طهران عام 1979. والسؤال الذي يطرح على الولايات المتحدة الأميركية, بقدر ما يطرح على الاتحاد الأوروبي على حد سواء, هو ما إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي الثلاث, ستطرح على طهران صفقة مجزية ومنصفة للتفاوض حول سياساتها النووية, خاصة وأن المرجح أن تمضي هذه السياسات نحو مزيد من التشدد والتصلب.
وبالنظر إجمالاً إلى ما صدر من تعليقات أولية على نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية, فإن البادي فيها أنها أخفقت في تسليط الضوء على الدلالة الحقيقية لهذه الانتخابات. ولكي نبدأ بتوضيح هذه الدلالة, لنقل أولاً إن في تفضيل الشارع الإيراني للمرشح المهني المحترف, البالغ من العمر 48 عاماً, على منافسه الرئيس السابق البالغ من العمر 70 عاماً, ما يرمز إلى تنامي حس الوطنية في أوساط الشعب الإيراني, وأن أولويات الإيرانيين وأفضلياتهم إنما ترتبط بمستوى حياتهم ومعيشتهم.
وفيما يبدو فقد خلق الناخبون حالة من التماثل بينهم والرئيس الجديد الذي منحوه أصواتهم, لكونه بين أبناء الجيل الإيراني نفسه, الذي عانى ويلات البطالة وعذاب الحرمان الاقتصادي. كما يبدو أنهم خلقوا حالة أخرى من التماثل بينهم ورجل مثلهم, كان قد سبق له الانخراط في صفوف الحرس الثوري, وخاض غمار الحرب ضد العدوان العراقي على إيران, دفاعاً عن تراب وطنه وأهله, فضلاً عن كونه سعى سعياً مقدراً, لتحقيق قدر من الأهلية والكفاءة والعدل في مجتمع العاصمة طهران, حين كان عمدة لها خلال العامين الماضيين. إلى ذلك فقد وعد الرئيس نجاد بإجراء إصلاحات كبيرة وملهمة, بصفته محافظاً راديكالياً.
ثم هناك نتائج إعادة الجولة الانتخابية نفسها, بين المرشحين الأخيرين المتنافسين, وما تمثله دلالة مشاركة نسبة 61 في المئة من الناخبين في هذه الجولة الأخيرة. وما فوز أحمدي نجاد على منافسه علي أكبر رفسنجاني بفارق 63 في المئة إلى 35 في المئة, إلا دليل آخر على مصداقية وشرعية انتخاب الرئيس الجديد, الذي يعبر عن رأي وإرادة الأغلبية الناخبة. وللمصادفة فإن شرعية أحمدي نجاد خلال الانتخابات الإيرانية الأخيرة, تفوق كثيراً شرعية الرئيس بوش نفسه, قبيل وصوله إلى البيت الأبيض لأول مرة. كما تفوق شرعية نجاد, شرعية نظيره الباكستاني برويز مشرف, الذي يعد حالياً أقرب وأوثق حلفاء الولايات المتحدة! والأهم من كل ذلك وقبله – وهو ما لم يفطن له الغرب أو تجاهله عمداً- أن هذه الانتخابات التي جرت مؤخراً في إيران, إنما هي تعبير عن رغبة الشعب الإيراني وتطلعاته إلى التغيير, وحلمه بالعدل الاجتماعي وإتاحة الفرص الاقتصادية أمامه, لا سيما وأن الموارد الطبيعية الإيرانية, تحمل الكثير من الوعد والتفاؤل بواقع اقتصادي جديد.
فعقب عامين من الارتفاع الفلكي في أسعار النفط العالمي, ارتفعت آمال الإيرانيين عالياً, في حدوث تحسن كبير في نمط ونوعية حياتهم اليومية. غير أن الذي حدث فعلياً, هو أن أي زيادات طرأت على الدخل القومي خلال الفترة المذكورة, بقيت حكراً على فئة قليلة من الإيرانيين, مما يعني عدم حدوث أي تحسن يذكر في حياة الغالبية الغالبة من أفراد الشعب, مع العلم بأن نسبة البطالة ومعدلاتها تراوح حول ما يصل إلى 30 في المئة.
كما أسهمت ظاهرة الفساد والفوارق الاجتماعية الكبيرة بين المواطنين في مستوى الدخل, في زيادة الشعور بالإحباط بين الأغلبية منهم, مقترنة بمشاعر البؤس والحرمان الاقتصادي. وبالطبع فإن عاملاً آخر من عوامل تفاقم المشكلة, هو اعتماد الاقتصاد الإيراني على سلعة النفط وحدها, علماً بأن منتجات إيران من النفط والغاز الطبيعي, هي التي دعمت إيران ومكنتها من الصمود أمام ربع قرن كامل, من استمر