ساد اعتقاد دارج عن قناديل البحر, أنها كائنات حية سهلة وبسيطة. وبالطبع فإنك لن تستغرب لما ساد هذا الاعتقاد, بمجرد إلقائك نظرة على أي واحدة منها بين تلك الأسماك التي تحفظ في الأحواض. فهي شأنها شأن فصيلتها من الكائنات البحرية الأخرى البسيطة, مثل المرجان وغيره, تبدو كما لو كانت كائناً بسيطاً خالياً من أي تعقيد بيولوجي, أو زوائد أو أطراف. فهي سمكة عديمة الرأس, ولا ظهر لها ولا بطن, كما أنها تخلو من الجانبين الأيمن والأيسر, إلى جانب كونها عديمة الخياشيم والقلب. أما معدتها فعبارة عن جراب هلامي, بدلاً من أن تتخذ شكل الأنبوب المميز لجميع الكائنات الأخرى المعقدة. وبحكم تكوينها البيولوجي فإنه لابد لفمها من أن يؤدي دور القناة الشرجية التي تخرج منها الفضلات. وبدلاً من أن يكون لها دماغ كامل ومحمي, فإنها تكتفي بما لديها من مجموعة منتشرة من الأعصاب. وإذا كان في مقدور أسماك الروبيان, أو غيرها من الأسماك العادية, السباحة بسرعة فائقة في ماء البحر, فإن على القناديل أن تشق طريقها ببطء وبمنتهى الصعوبة خلافاً لرفيقاتها.
بيد أن دراسات وأبحاثاً جديدة أجريت على قناديل البحر, أكدت للعلماء مدى خطئهم في التقليل من شأن التعقيد البيولوجي, الذي تتسم به قناديل البحر وفصيلتها التي تعرف علمياً باسم "نيديريانز". فتحت السطح الظاهري البسيط لأفراد هذه الفصيلة من الأسماك, يكمن تعقيد بيولوجي مدهش, قوامه مجموعات هائلة من الجينات, بما فيها تلك التي تعد أساساً لدراسة تشريح الجسم البشري. فعلى حد تعبير الدكتور كيفن جي. بيترسون, الباحث البيولوجي من "دارتماوث", فإن المفاجأة الكبرى غير المتوقعة لأحد, أن تكون قناديل البحر بكل هذا التعقيد الذي كشفت عنه الأبحاث والدراسات للتو! وقد كان هذا الاكتشاف حافزاً كبيراً للعلماء, كي يطوروا نظريات جديدة حديثة حول الكيفية التي تطورت بها الكائنات الحية, خلال نحو 600 مليون سنة تقريباً. كما شجعت النتائج التي تم التوصل إليها, على المزيد من التعرف وإجراء البحث العلمي على فصيلة "نيديريانز" بهدف تعميق فهم ومعرفة طريقة عمل جسم الإنسان نفسه. والنتيجة الطبيعية لهذا الاكتشاف الأخير, أنه أرغم الباحثين والعلماء, على الرجوع عما كانوا يعتقدونه عن قناديل البحر وفصيلتها وأن يعترفوا بأن كل ما جرى اعتقاده عن أفراد هذه الفصيلة, لم يكن سوى خطأ محض وهراء!
يذكر أن الباحثين والعلماء البيولوجيين في عصر النهضة, كانوا قد صنفوا أفراد الفصيلة المذكورة, ضمن الكائنات النباتية. بيد أن نظراءهم في القرن الثامن عشر, أضافوها على مضض, إلى مملكة الحيوانات, دون أن يعطوها أي أهمية أو قيمة أكبر من ذلك الحد. وحتى باب الدخول إلى مملكة الحيوانات, كان موارباً وغير مفتوح على مصراعيه, لكونهم صنفوها تحت تسمية (zoophytes) أي الكائن الحيواني النباتي اللافقاري. وكان على العلماء الطبيعيين أن ينتظروا حتى حلول شمس القرن التاسع عشر, كي تنفتح عيونهم على الكيفية التي تطورت بها القناديل وبقية أفراد فصيلتها الحيوانية "نيديريانز" من بويضات مخصبة. فأجزاء جسمها, تتألف من طبقتين بدائيتين من الأنسجة, هما الطبقتان الداخلية والخارجية. وبالمقارنة مع أفراد هذه الفصيلة, فإن لكائنات حية أخرى – بما فيها الحشرات والإنسان- طبقة جلدية ثالثة هي الطبقة السفلى, التي عادة ما تتوسط الطبقتين سالفتي الذكر. ومن خصائص هذه الطبقة الأخيرة, أنها تؤدي إلى تكوين العضلات والقلب, وغيرها من الأعضاء الأخرى, التي لا توجد لدى فصيلة "نيديريانز".
كما كشف العلماء أن لأفراد هذه الفصيلة, خطة عامة يعمل الجسم وفقاً لها. ولما كان للأسماك وذباب الفاكهة وديدان الأرض, رأس وذيل وأجزاء أمامية وأخرى خلفية, وجانب أيمن وآخر أيسر, فقد درج العلماء على الإشارة لجميع هذه الكائنات والحيوانات – بما فيها الإنسان- ذات التوازن الثنائي الجانبي, بتسمية الكائنات "ذات الجانبين". وعلى نقيض ذلك يبدو أن فصيلة "نيديريانز" تفتقر إلى هذا التوازن تماماً. فلقنديل البحر على سبيل المثال, ما يوازي إطار الدراجة الهوائية, الذي ينشأ من محور مركزي. وعليه فقد ألهمت هذه الحقيقة العلماء التطوريين, النظر إلى أفراد هذه الفصيلة, باعتبارهم أثراً بيولوجياً لتلك الأيام أو العصور الأولى, من تاريخ تطور الكائنات الحية.
الأرجح أن تكون أولى تلك الكائنات الشبيهة بالإسفنج, لم يبلغ بها التعقيد أكثر من كونها كرات أو تكوينات من الخلايا المتشابكة المتعاونة مع بعضها بعضاً. ثم يرجح العلماء أن تكون فصيلة "نيديريانز" تلت ذلك الطور, لتمثل المرحلة الثانية منه, لكونها اكتسبت بعض الخصائص البيولوجية الأكثر تعقيداً نوعاً ما, مثل الخلايا والأعصاب البسيطة. وفيما عرف في تاريخ ومراحل تطور الكائنات الحية, يبدو أن ما توفر حتى الآن من سجلات متحجرة للكائنات, فيه ما يؤيد صحة هذا الافتراض النظري. فالشاهد أن الكثير جداً من الحيوانات المتحجرة الأولية, يرمز إلى قناديل البحر أو فصيلتها "نيديريانز".