اقتربت الساعة، ولن يكتمل العام الميلادي الجاري إلا والعالم الحر يحتفل في الاجتماع القادم لمجلس إدارة "حكومة العالم" القادمة والمسماة منظمة التجارة العالمية حالياً، بانضمام المملكة العربية السعودية إلى عضويتها، لها ما له من حقوق وعليها ما عليه من التزامات، وذلك بعدما حظيت بمباركة أكبر شريك تجاري لها ولبقية العالم، أي الولايات المتحدة الأميركية ووقع رئيس وفدها المفاوض مع نظيرته الأميركي نحو ألف صفحة مليئة بالأرقام والنسب واللوائح والشروط والحقوق والالتزامات، تغطي كل شيء من حصص شركات التأمين الأجنبية في السوق السعودي، إلى الرسوم الجمركية على البطاطس بمختلف أنواعها وجودتها. قبل ستة أشهر وصل فريق صغير من الخبراء السعوديين إلى واشنطن للتفاوض مع نظرائهم الأميركيين، توقعوا أنهم يستطيعون إنجاز مهمتهم الصعبة خلال أيام، وإذا بهم يمضون أشهراً عدة في جلسات مضنية، وساعات عمل غريبة، إذ كثيراً ما توجهوا لمكاتبهم في السفارة السعودية بواشنطن قبل الفجر، كي يتمكنوا من التواصل والتشاور مع زملائهم والمسؤولين في الرياض. لذلك كان من الطبيعي أن يحتفلوا مع رفقائهم الأميركيين بهذا الإنجاز مساء الجمعة قبل الماضي في واحد من أفخر المطاعم الإيطالية بواشنطن فهم يستحقون أكثر من ذلك.
سألت الدكتور فواز العلمي رئيس الفريق السعودي المفاوض عن سبب طول المفاوضات، فقال "إنه اتفاق تجاري واقتصادي وليس سياسياً. إنها مصالح قطاع الأعمال من شركات وصناعة وطنية ومزارعين وعمال. إنه اتفاق سيتأثر به كل مواطن ويختلف عن اتفاقيات الأمم المتحدة التي تجد الدول للأسف عشرات الطرق كي تلتف حولها، فلمنظمة التجارة ذراع قوية هي محكمة حسم المنازعات التجارية وقراراتها ملزمة، ويمكن أن تفرض عقوبات على الدول المخالفة لأنظمتها، وبالتالي لابد أن ندخل المنظمة محصنين باتفاقية قوية محكمة تحمي مصالحنا". الخبر الجيد أنه ما من كبير في هذه المحكمة فوق القانون، فالولايات المتحدة التي تسرح وتمرح في مجلس الأمن ومعها إسرائيلها المدللة والمحصنة برعايتها وحمايتها، خسرت أكثر من قضية في محكمة منظمة التجارة العالمية، وأكثر قضاياها كانت مع الأوروبيين، وهم أكثر تمرساً في الأنظمة التجارية الدولية، وسوف يكونون ساحة معركة الفريق السعودي المقبلة.
الأوروبيون يريدون منا أن نتخلى عن أعز ما نملك اقتصادياً، وهو الحق في تسعير الغاز محلياً بغير سعر السوق المصدر، وهي ممارسة اقتصادية مقبولة وتمارسها كل الدول، ذلك أنها توفر لصناعتنا المحلية ميزة تنافسية كما أنها من أقوى أوراقنا في جلب الاستثمارات الأجنبية، وبالتأكيد لن تتخلى المملكة عن هذه الميزة بأي حال من الأحوال، وفي ذلك نموذج لصعوبات المفاوضات التي تعطي كل دولة الحق في أن تسألك عما تريد.
مع الأوروبيين وبعدهم ستكون الجلسة الماراثونية في جنيف والتي سيجلس فيها الوفد السعودي المفاوض لعدة ساعات يجيب على أسئلة ومطالب 56 دولة، وهذا العدد الزائد عن الطبيعي من المفاوضين ناتج عن أهمية المملكة وقوتها الاقتصادية، وهي ليست دوماً ميزة بل قد تكون عبئاً، فدول عدة لم تحتج إلى أن تتفاوض إلا مع بضع دول، ولكن عندما تكون المملكة صاحبة الاحتياطي الأكبر من النفط المتاح للعالم، فإنها لا تمتلك إلا الاستجابة لقدرها.
المرحلة الأخيرة ستكون بعيد في الشرق، وليست بعيدة اقتصادياً، في هونج كونج، حيث سيجتمع مجلس إدارة "حكومة العالم" أي وزراء التجارة أعضاء المنظمة وذلك في منتصف ديسمبر المقبل حيث سيعلن رسمياً عن انضمام المملكة لهذا العالم الحر السعيد بكل ما يعنيه ذلك من حقوق والتزامات.
الالتزامات هي التي يجب أن ننشغل بها، فالحقوق سنحرص عليها، ونتوسع فيها، ولكن لابد من حمايتها باحترام الالتزامات، ما يعني أن هنالك حاجة لنشر ثقافة مرحبة بمنظمة التجارة العالمية في الشارع السعودي، وبالعولمة، وبالانفتاح على الأجنبي، والالتزام بالشفافية والوضوح، واحترام الملكية الفكرية، إنها ثقافة يجب أن يروج لها الإعلامي، ويدرسها الأكاديمي، ويعززها القاضي، فهل نحن مستعدون لذلك؟
أؤمن أننا بحاجة ماسة لحملة علاقات عامة واسعة للتعريف بما يعنيه انضمام المملكة إلى المنظمة، واللغط الذي حصل بعد توقيع المملكة اتفاقها مع الولايات المتحدة حول التعامل التجاري مع إسرائيل نموذج لذلك، والحقيقة أن المنظمة لا تنتقص من حقوق السيادة الوطنية، فالتاجر السعودي لن يكون ملزماً باستيراد أو تصدير بضاعة لإسرائيل، مثلما أنه غير ملزم بذلك تجاه ألمانيا أو فنزويلا أو حتى دولة شقيقة كمصر، وأن الذي يحكمه هو حافزه الربحي وقبله حسه الوطني، ولكن المملكة ملزمة فقط باحترام تعهداتها تجاه كافة الدول الأعضاء في المنظمة بل حتى التفاوض معهم.
كما أن المنظمة لا تعني أننا ملزمون بالسماح بالخمور أو لحم الخنزير أو حتى دواء نافع ليس فيه شبهة شرعية إلا بعدما تقتنع وزارة الصحة بجدواه الطبية وفق أنظمتها ورأي خبرائها، وبالتالي ما من سبب للتوجس على مبادئ السيا