حتى هذه اللحظة، لا تزال ردة الفعل العربية مغرقة في سلبيتها إزاء المأساة التي تكشف عن وجهها يوماً إثر يوم في العراق! ومما لا ريب فيه أن لهذه السلبية صلة بعدم إدراك بعض قادة هذه الدول، للكيفية التي يتصرفون بها إزاء ما يجري هناك، بجانب عدم تأكدهم مما إذا كانت أطراف النزاع في العراق، ستقبل مساعدتهم في حل النزاع أم لا؟ غير أن هذا الواقع تغير الآن تماماً، إذ لم تعد المهددات المباشرة، التي تستهدف أكثر المصالح العربية حيوية، تتحمل سلبية كهذه، وأصبح على الدول العربية الإسراع في تنسيق جهودها لوضع حد للمأساة· أكثر من ذلك، فقد مهد المأزق الدموي المشترك بين طرفي النزاع، التربة لقبول التدخل الخارجي، الذي ربما يكون فاعلاً في إيجاد مخرج من حمامات الدم هذه· واستناداً على هذه الحقيقــــة، كــــان الأمـــــير ســـعود الفيصل -وزير الخارجية السعودي- قد حذر إدارة بوش أثناء زيارته إلى واشنطن الشهر الماضي، من أن العراق قد صار على شفا هاوية الحرب الأهلية والتمزق الداخلي، الأمر الذي من شأنه إشعال فتيل الحرب في المنطقة بأسرها·
وفيما يبدو فإن هناك عاملين رئيسيين، صارا يمثلان تهديداً بالغ الخطورة لأمن المنطقة العربية· أولهما اندلاع حرب قائمة على الفتنة الدينية بين شيعة وسنة العراق، مع العلم أن بذور هذه الفتنة والحرب، قد لاحت سلفاً في فضاء النزاع السياسي هناك· وفيما لو ازداد أوار الحرب اشتعالاً، فإنها لاشك ستعود على منطقة الخليج العربي وما وراءها، بعواقب كارثية لا تحمد ولا تعرف عقباها، هذا فضلاً عن تأثيراتها الخطيرة على البيئة الأمنية لكافة الدول المعنية· أما العامل الثاني فيتمثل في التأثير السلبي المرتقب على أمن المنطقة العربية، جراء تمزق العراق، ومن ثم إضعافه كقوة سياسية وعسكرية مكافئة لمنافسته إيران· فمع ضعف العراق ووهنه، لن يعود تلك القوة الرادعة لأي طموحات إيرانية محتملة، تستهدف الأمن العربي· وعليه، وفي حال استثنائنا لأية مخاطر ومهددات أخرى ناجمة عما يجري في العراق الآن، فإن فيهما وحدهما ما يكفي من خطر داهم يحدق بالعرب، ويدفعهم للإسراع نحو بلورة مبادرة، ترمي إلى وضع حد للنزاع الدموي·
وبعد فإن السؤال المهم والضاغط الآن هو: أي شكل يمكن أن يتخذه التدخل الخارجي -العربي والدولي- الرامي إلى وضع حد للمأساة؟ على الصعيد الأوروبي، فقد خطرت لمجموعة من كبريات الدول الأوروبية، فكرة تشكيل ''مجموعة أساسية'' من بينها، تجاوزاً للمصاعب التي تكتنف تنسيق الجهود الأوروبية مجتمعة بين دول الاتحاد الأوروبي الخمس والعشرين· وهناك صعوبة مماثلة على الجانب العربي أيضاً· فالشاهد أن الجامعة العربية التي تضم 22 دولة، هي من السعة والانشقاق والانقسام فيما بينها، إلى حد يقعدها عن التأثير والفعل، رغم الجهود التي يبذلها أمينها العام عمرو موسى· وعليه، فربما كانت فكرة ''المجموعة الأساسية'' العربية -المؤلفة من عدد من كبريات دول المنطقة -مثل مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والمغرب- هي الأوفق والأكثر ملاءمة لتحرك عربي سريع وفاعل، في اتجاه بلورة استراتيجية داعمة ومساعدة لكل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا من جانب، وللعراقيين في الطرف الآخر من النزاع، بهدف وضع حد له والخروج من جحيمه·
وسوف يكون في وسع هذه المجموعة العربية الأساسية المؤلفة من أربع دول، أن تعقد قمة لرؤساء دولها -لنقل في أبوظبي مثلاً- وأن تدعو طرفي النزاع العراقي، للإعلان عن هدنة مداها ثلاثة أشهر، مصحوبة بإعلان جدول زمني واضح وملزم لانسحاب القوات الأجنبية من العراق· كما تستطيع المجموعة أيضاً، دعوة كافة الأطراف والكيانات السياسية والعرقية والدينية العراقية -من المسلمين السنة والشيعة، الأكراد والتركمان، إلى جانب الوطنيين العراقيين المستقلين والعلمانيين منهم على حد سواء- لابتعاث مندوبيهم وممثليهم للمشاركة في ''مؤتمر جامع'' يعقد في منطقة محايدة خارج العراق، بهدف مشاركتهم جميعاً، في بلورة صيغة لاقتسام السلطة والثروة في ظل عراق جديد· ضمن ذلك، فسوف يكون في وسع مؤتمر كهذا، أن يضع الإطار العام لخطة ترمي إلى إنفاق ما قيمته 30 مليار دولار على إعادة إعمار العراق تحت مظلة ورقابة الأمم المتحدة، على أن تسهم في تمويلها الولايات المتحدة، ودول الخليج العربي بمبلغ 10 مليارات دولار لكل منهما، إضافة إلى 10 مليارات أخرى تسهم بها كل من دول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان، مجتمعة·
وعموماً فإن أهم ما يجب الاتفاق عليه، هو أنه قد حانت اللحظة التي يجب أن تبدأ فيها انطلاقة سياسية جديدة في العراق، على أن تضع هذه اللحظة نصب عينها، وضع حد لدوامة الموت الفظيعة التي تحصد أرواح الأميركيين والمتمردين العراقيين على حد سواء· وفي ظل استمرار الدوامة هذه، فإن الجرائم لا تنفك ترتكب من قبل كلا طرفي النزاع، مع العلم بأنها جرائم ستبقى طويلاً في الذاكرة، ويصعب نسيانها وغفرانها والتسامح معها، إلى جانب أنها ستثقل على ضمير ووجدان