قلت لنفسي إن هذا المقال لا ينبغي أن أكتبه إلا بعد انتهاء الاستفتاء على الدستور العراقي الجديد يوم 15/10/··2005 وظهور النتيجة بنعم أو بلا· ولكن ما دفعني إلى كتابته هو الاتفاق التاريخي بين مختلف القوى السياسية والمذهبية هناك، في مبادرة بدت كما يقول الأميركان Too good to be true، مما قلب الطاولة على أعداء العراق الديمقراطي، وبدل عناصر ومعطيات مختلف التوازنات·
هناك أشياء أخرى أتت على صبري، وحفزتني على الكتابة، في مقدمتها بالطبع تطور معطيات الساحة العراقية والعربية والدولية، من تصاعد في الإرهاب إلى انطلاق المبادرة العربية، والدور الإيراني، والنص الدستوري نفسه·· وغير ذلك·
قيل كلام كثير عن استعمار وتدمير واستعباد العراق قبيل 9 أبريل 2003 وبعده· ودخلت البلاد منذ ذلك اليوم في مرحلة من العنف والتمزق والأزمات عشناها جميعاً من بعيد وعاش في أتونها الشعب العراقي يوماً بيوم، وليلة بليلة، ولم يكن نهاره بعض الأحيان بنهار·· ولا ليله ليلا!
العرب على امتداد سنتين ونصف من العذاب والتفجير والموت المجاني والطائفي، ظلوا متفرجين، جل حكوماتهم تتمنى لتجربة تغيير نظام بغداد الفشل والتعثر، وأغلب مثقفيهم، ومعهم كهنة سرادق العزاء الإسلامي والعروبي، يولولون على مصير العراق، وينفخون في نار الإرهاب بحجة دعم المقاومة، بالطبع بعد أن غفروا للطاغية وأعوانه ربع قرن من الحكم الاستبدادي والجرائم البشعة والعبث بمقدرات العراق·
في مقال له قبيل سقوط النظام، كتب مثقف عراقي مستغيثاً بالعرب: ''أنقذونا! ما من شيء يغيظني في المثقفين العرب كموقفهم من معاناة الشعب العراقي، وكجهلهم وسذاجتهم بأن العراق سيحرر فلسطين، وأنه يصنع كل هذه الأسلحة ليضرب بها إسرائيل·· العراق يناديكم يا أولاد الحلال ويا أولاد الحرام''! سمعت بأن عمرو موسى قد اغتاظ من مقالتي عن الجامعة العربية، أضاف خالد القشطيني: ''أمامه وأمام الجامعة العربية هذه الفرصة الآن: إنقاذ العراق· ستكون آخر امتحان لهذا الحصان الأعرج· عليها أن تسرع لعقد قمة في بغداد يحضرها ملوك ورؤساء العرب لغرض واحد هو إقناع الرئيس العراقي بتسليم الحكم لغيره وضمان لجوء مُشرِّف ومترف له ولأسرته وذويه وأصحابه''·
بالطبع فاتت تلك الفرصة على العرب كما فاتت عليهم فرص كثيرة أخرى، في تاريخ المنطقة، كانت ستنقذ العراقيين والفلسطينيين والمصريين وغيرهم، فوقع أسوأ مما هو متوقع! لم يستوعب العرب الدرس في العراق، كما كتب كاتب عبدالحميد الأنصاري: ''ولم يكفروا عن خطاياهم بعد سقوط الرمز، فلم يبادروا بأي دعم للعراق بحجة وجود المحتل·· واعتبروا إطاحة أبشع ديكتاتورية إضعافاً للعرب وخدمة لإسرائيل ومقدمة لتقسيم العراق، ورأوا في نظام صدام خيراً لجهة التوازنات العسكرية والقومية والطائفية، بغض النظر عن جرائمه والمقابر الجماعية والإبادة والاغتصاب والتعذيب''·
في الكويت، كتب قبل أيام محام معروف هو عماد السيف، يلوم بشدة المبادرة: ''لقد غابت الجامعة العربية عما يدور في العراق منذ فترة طويلة، غابت قبل سقوط النظام البائد، وغابت أثناء العمليات العسكرية التي أدت إلى إسقاطه، وغابت تماماً بعد سقوط النظام، وتخلت بالكامل عن الشعب العراقي، وتركته فريسة للمؤامرات والتجاذبات السياسية والإقليمية والدولية·· الواضح أن العراقيين لا يرون بمختلف فصائلهم السياسية والمذهبية أي مصداقية للجامعة العربية، ويؤمنون تماماً وللأسف الشديد أن العرب قد تخلوا عنهم في أحلك الظروف''·
المنظمات الحقوقية الدولية تقول إن ''المسلحين في العراق يرتكبون جرائم حرب''، وإنهم يعذبون ويقتلون المدنيين بلا رحمة وإنهم يمارسون من الأفعال ما تقشعر له الأبدان· ولكن جواب ''عرب التفرج'' المتوقع، هو في أحسن الأحوال ''إدانة الإرهاب·· ولتدم المقاومة''!
بالطبع، وكما قلنا مراراً وتكراراً، لم يسأل هؤلاء أنفسهم من هي المقاومة؟ وما برامجها؟ وما قدراتها على حماية العراق في وجه جيرانه؟
الحديث عن النفوذ الإيراني يملأ الصحف منذ فترة، وبخاصة في مناطق الجنوب وفي أوساط الشيعة· أحد الكتاب العراقيين المنتقدين لهذا النفوذ يكتب: ''نفوذ إيران وتأثيرها وتدخلها في الشؤون الداخلية للعراق ووجود أجهزتها السرية تجسده ملايين الدولارات التي تقدمها طهران لأحزاب وجماعات وميليشيات إسلامية شيعية، وجمعيات إغاثة حقيقية ووهمية، والأسلحة والذخائر التي تتلقاها هذه الأحزاب والميليشيات، ودورات التدريب العسكري التي يقيمها ''الباسداران'' و''الباسيج''، لعناصر الميليشيات التي تحولت إلى حكومة فعلية في محافظات الجنوب والوسط التسع·
لكن الحكومة الإيرانية، وبخاصة صقور المحافظة والتشدد، ينبغي أن تكون ساذجة وملائكية كي تقف على الحياد من تطورات العراق· إن الأنظمة العربية تحاصر المولود العراقي وتود أن تدفنه مع المشيمة! وأطراف عربية عديدة تصدّر عتاة المتطرفين والإرهابيين وأموال التصفية الطائفية إلى بلاد الرافدين، وتركيا تراقب الأوضاع في الشمال العراقي بعيون لا