هذه المدينة الصغيرة التي تدعي أسبانيا امتلاكها، كموطئ قدم أوروبية على الأراضي المغربية، ولا يخجلها أن اسمها ''أم ليلى'' -وإن درجت على الألسن ''أومليلة''- تبقى -وعلى مقربة من قرينتها ''سبتة''- كمسمار جحا في حلق العالم العربي، بل وكشوكة في لسان متحاوري المتوسطية، والحوار الحضاري والثقافي وفق مواثيق برشلونة· وهي التي كان يمكن أن تؤسس لعلاقات طبيعية، استمراراً لعلاقات تاريخية دونها اليوم مرارة الذكرى·
هذه المدينة، يقتحمها اليوم ''طرف ثالث'' يزيد الوصف تعقيداً، فهي مدينة ''أوروبية'' -هكذا- على أرض مغربية، يقتحمها ''أفارقة'' بينما المغرب تنشّط بدورها صيغتها الأفريقية، لاعتبارات -على الأقل- ''صحراوية''!
حين يستمع المرء إلى الصراخ الأوروبي صادراً من أسبانيا مركز الحوار الحضاري المتوسطي أو البرشلوني، بشأن محاولات بضعة آلاف التسلل إلى الشاطئ الأوروبي فيما يسمى بـ''الهجرة السرية'' أو ''غير الشرعية'' لابد أن يتذكر أن هذه العمليات راح ضحيتها حوالى خمسة آلاف ''أفريقي'' من جنوب الصحراء في السنوات الخمس الأخيرة، وأن هذا الصراخ على ما يبدو هو لتغطية أعمال القتل المباشر على جدار ''أم ليلى'' وأسوارها السلكية التي يتسلقها المتسللون خفية مضحين بحياة البعض لتيسير تسلل البعض الآخر·· في نظام يسميه مسؤولو الداخلية شبكات الهجرة السرية في دول غرب المتوسط·
وقد لفت نظري أن جنسيات هؤلاء المتسللين تمتد بهم من الكاميرون في شرق وسط القارة إلى نيجيريا وبوركينا فاسو والسنغال ومالي وغينيا في غرب القارة، وأن خطة إعادتهم إلى بلدانهم قدرتها الدوائر الأوروبية بحوالى أربعين مليوناً من اليورو· والمشهد الذي ترسمه وسائل الإعلام حول هذا السيناريو كله، أن مجموعات من البؤساء، الجوعى والمرضى، من جنوب وشمال الصحراء في القارة، يغامرون بحمل مشاكلهم إلى الشاطئ الأوروبي الشمالي دون تنظيم ودون توفير لمعايير الهجرة، ومتطلباتها مما تصوغه إدارات ''الموارد البشرية الأوروبية''، وبما يترتب على ذلك من توفر بيئة الأمراض وأعمال التهريب، وقبل هذا وبعده بيئة الإرهاب!
ولا يستطيع أحد أن ينكر ضرورة تنظيم الظواهر الاجتماعية وتصنيفها، كما لا يمكن إنكار احتياج الطرفين للاتفاق حول هذه الظاهرة بالذات، ظاهرة الهجرة، بحيث لا تبقى عملاً سرياً، بينما هي عمل إنساني بسيط، تحاط براءته بكل هذه الصورة من ''التدني'' أو العدوانية أو ''اقتحام الخصوصية''·· إلى آخر ما تصاغ به صور الاستياء الأوروبي الذي يتحول إلى أعمال ''جدارية'' وبناء الأسوار السلكية لوقف هذا العدوان الوحشي! وقد لا يندهش البعض إذن عندما يرون إسرائيل تقيم جدرانها على أرض غير أرضها بزعم ''تنظيم العمالة'' تارة أو وقف ''التسلل الإرهابي'' تارة أخرى على ما تقوله أجهزتها النشطة في أوروبا خاصة· ولا يذكر أحد هنا مشاكل التنمية غير المتكافئة وغير المتوازنة التي تدفع بهؤلاء المساكين إلى أسلوب الهجرة بهذا الشكل، وهي هجرة من بلاد احتلها الأوروبيون طويلاً، وحولوا اقتصادها من اقتصاد معيشي -وإن كان بدائياً- إلى اقتصاد تابع، بل وخادم لكثير من أوجه الرفاه الأوروبي فقط· فهذه البلاد المذكورة مثل لـ''الهجرة السرية'' و''مصدر للمتاعب'' لا تنتج إلا الفول السوداني لـ''الزبدة الصناعية'' والكاكاو لـ''الشيوكولاتة'' والبن لـ''الكافيه''! والمواد الثلاث على الأقل لا يستعملها الأفارقة المذكورون المتسللون سراً إلى الشاطئ الآخر، الذي ينتج اللحم واللبن والخبز والبطاطس، القوت الطبيعي للبشر، والذي تنفق عليه أوروبا الكثير وتضرب بشدة أي خطط لهؤلاء التعساء لزراعة أو إنتاج هذه المواد من خلال تنظيم دولي يعرف بمنظمة التجارة العالمية·
لم نتحدث عن ''الدعم السري'' الأوروبي للمواد المنافسة ولا عن أسعار ''البضائع الأوروبية''، التي تزيد في بعض الدراسات مئة مرة عن أسعار ''البضائع الأفريقية''، ولا عن أجور العمال الأفارقة الرخيصة في بلادهم أو عند هجرتهم في خدمة وقائع التقدم الأوروبي· إن هناك الكثير من مشاكل الهجرة بين بلدان العالم الثالث يعترف بها الجميع، لكنها لا ترتبط بهذا القدر من الذكريات الاستعمارية القديمة والاستغلالية الحديثة، بل والتجاهل الجاري في أطر دولية مضمونة للمصالح الأوروبية وحدها، بما يستوجب حواراً حقيقياً مخلصاً تقوم فيه الدول الأوروبية بالتزاماتها المادية المباشرة التي لا تنفصل عن الاستحقاقات التاريخية· إن هناك الملايين في إطار من ''الهجرة المتحركة'' بين دول مذكورة في قائمة موردي المهاجرين ''سراً'' إلى ''أومليلة''، لكن أحداً لا يذكر مشاكل هذه الملايين بين حدود ''بوركينا فاسو'' وساحل العاج، أو بين غانا ونيجيريا، أو بين السنغال ومحيطها من الدول، بل لاحظنا على المستوى الأفريقي أن معالجتها تتسم بمصطلحات مثل ''التنمية الإقليمية المتكاملة'' أو التنظيمات الاقتصادية الإقليمية أو ''صناديق التنمية الخاصة''أو اتفاقيات تنظيم الانتقال والعمالة··· إلخ·
لكن العلاج بـ''الأسوار والجد