لم يكن العراق ''الجديد'' بحاجة إلى دستور يسجل المحاصصة بين الأطراف التي انبثقت من الغزو والاحتلال، بل كان ولا يزال يحتاج إلى دستور أكثر بساطة يثبت القواسم أو الجوامع المشتركة لمختلف مكونات مجتمعه· وعندئذ كان ليكون الدستور فعلاً عامل توحيد وتوكيد لـ''وطن للجميع''، بدل أن يظهر العراق من خلال النص المعدّل مراراً وتكراراً أشبه بكيان ممزق يعكس واقع الحال أكثر مما يعكس المستقبل، ويزيد في بؤسه أن أحداً من هؤلاء الأطراف الأقوياء لا يعتنق مسؤولية إنهاض العراق من دماره، بل لا يدّعيها وإنما يجهر فقط بمصالح الفئة التي ينتمي إليها ولا يعترف إلا بها·
الواقع أقوى من كل النصوص، والمعاش أقوى من كل الجدل الذي دار في الشهور الأخيرة لصياغة مسودة الدستور· هناك ''دستور'' آخر فرض نفسه على الأرض، وهو الذي سيبقى قيد التطبيق، لكن أحداً لن يدعو إلى استفتاء عليه· إنه ''دستور'' ارتسمت معالمه من خلال مجلس الحكم المؤقت، والحكومة الانتقالية، فالانتقالية التالية، وما أنتجته من نمط ميليشيوي في التفكير والتدبير، وفي الاستحواذ والفساد، وفي فتح الأبواب للفوضى التي تلقفها الإرهاب كهدية غير متوقعة ما انفك يستزيد منها·
أما الاستفتاء الذي جرى، وسيعطي النتيجة ''الإيجابية'' المتوقعة في أي حال، فهو يلبي الأجندة الأميركية، وفي الوقت المحدد، بلا تأخير، لكنه يؤجل استحقاقاً عراقياً كان يفترض أن يحترم وأن تلبّى متطلباته لئلا يزيد مشاكل البلد تعقيداً· وبموجب الاستفتاء هذا، سيكون للرئيس جورج بوش أن يعلن اليوم أو غداً أن ''انتصاراً جديداً'' قد تحقق في العراق· غير أن مواطنيه لم يعودوا في المزاج الذي يهلل لمثل هذه الانتصارات، فكل ما يعنيهم في قصة الدستور أن يكون خطوة كافية لسحب الجنود من العراق· أما الحلم الوردي الذي رسمه لهم الرئيس لحرب نظيفة واحتلال هادئ ونموذج فريد لاستزراع الديمقراطية وتصديرها، فقد انتهى منذ زمن·
المهم الآن بالنسبة إلينا، بعد الاستفتاء وحتى قبله، هو العراق وهم العراقيون، فهل أنجزوا فعلاً خطوة نحو الاستقرار؟ ما من شك في أن الدستور نقلة جوهرية على طريق بلورة النظام الجديد وإنهاض الدولة· لكن أي نظام وأي دولة؟ بل أي دستور؟ طالما أن التوافق لم يحصل فإن الدستور، وكل ما هو متوقع منه، يبدو مؤجلاً· ولا يمكن أن نحكم إلا على الموجود، على ما نراه الآن وما شهدناه وشاهدناه خلال السنتين الماضيتين، سنتي ''التأسيس'' الذي شاءته قوة الاحتلال وشاءه المتعاملون معها تأسيساً فوق الأنقاض· شاءوا المجازفة الكبرى ولم يبرهنوا أنهم على مستواها· لم يلاموا إذ سعوا إلى إبادة كل مظاهر النظام السابق ورموزه، لكنهم يلامون إذ يصرون على بناء الدولة من الصفر، وبوسائل وعقليات لا تختلف عن سابقاتها· كانوا مثلاً يرفضون التمييز الطائفي في العهد البائد فاستبدلوا تمييزاً بتمييز وعلى نحو لا يقل فجاجة، وكانوا مثلاً يعتبرون الفساد المالي وغياب القانون من أدوات الاستبداد السابق، وها هي تقارير المنظمات الحقوقية تحفل بشهادات عن الفساد الذي انتقل من يد إلى يد، أما الاستبداد فهو آخذ في التشكل عبر ''الدستور'' الذي يوزع السلطات ويقطّعها ليضع الحكم في أيدي من هم ''أمراء حرب'' أكثر مما هم ''رجال دولة''·
سيظهر سريعاً أن المشكلة لم تكن في صياغات النص الدستوري، وإنما في الممارسات والتطبيقات المسبقة للنصوص، والتي استمدت من عقلية ميليشوية هي التي صنعت المفاهيم والمبادئ التي استرشدها طباخو الدستور، وهي التي جرى إثباتها لتصبح قيماً مؤسسية للدولة، بما فيها تغليب للمصالح الفئوية· تعالوا الآن إلى تطبيق العدالة في ''توزيع الثروات'' وسترون أن كل ما قيل وكتب لترويج هذا الدستور وتزيينه لم يكن سوى كتابة على الرمل·