إذا ما استبعدنا الخوارق والمعجزات، فإن من المرجح أن يشق الطاغية العراقي السابق صدام حسين، طريقه إلى المشنقة في وقت ما من العام المقبل ·2006 فمن فرط وحشية نظامه وكثرة ضحاياه، يتوقع أن يصفق العراقيون طويلاً، فيما لو أصدرت المحكمة العراقية الخاصة عليه حكماً بالإعدام· ومن سوء سيرة هذا النظام أنه ولغ في بركة من الدماء منذ لحظة صعوده إلى سدة الحكم وحتى لحظة انهياره· وما سجل ذاك النظام سوى تاريخ محتشد بالعنف، سواء تمثل هذا العنف في حملاته الوحشية المتكررة على الأكراد، أم في سحقه الدموي للانتفاضة الشيعية، أم في حربه ضد إيران وغزوه للكويت، أم في المذابح التي كان يجريها لمعارضيه السياسيين، أم في ظروف السجن البربرية التي ظل يفرضها على مسجونيه· وما المقابر الجماعية الهائلة التي تم الكشف عنها حتى الآن، سوى دليل دامغ على مدى احتقاره وازدرائه لأرواح البشر وحياتهم· لكن على رغم كل ذلك، فقد أثارت محاكمته التي بدأت الأسبوع الماضي، ليتم تأجيلها إلى وقت ليس بالبعيد، هو الثامن والعشرون من شهر نوفمبر المقبل، أثارت ردود فعل وانتقادات دولية واسعة، في أوساط القضاة ومنظمات وجماعات حقوق الإنسان· وفيما يبدو، فإن في تلك المحاكمة ثغرات وهنات كثيرة·
أولى هذه الثغرات أن المحاكمة تقام في ظل الاحتلال العسكري الأميركي للعراق، الأمر الذي يثير بحد ذاته الكثير من التساؤلات حول مدى شرعية المحاكمة· والشاهد أن بصمات واشنطن واضحة جداً على كل تفصيل من تفاصيل المشهد القانوني العراقي· فأميركا هي التي أنشأت المحكمة العراقية المختصة، بينما تولى مكتب التحقيقات الفيدرالي جمع المعلومات والأدلة والبينات ضد الطاغية المخلوع، في حين اضطلع المحامون الأميركيون بتدريب القضاة والمحامين المشاركين في المحاكمة· إلى ذلك تكفل الكونجرس الأميركي بتمويل المحاكمة كلها، بتخصيص مبلغ وقدره 128 مليون دولار أميركي، بينما أعلن الجيش الأميركي مسؤوليته عن تأمين إجراءاتها وتوفير الحماية اللازمة لها· وحتى إذا ما تعذر الاستبعاد الكلي لتفسير وضع صدام حسين برفقة سبعة من شركائه في الحكم، في قفص اتهام واحد، على أنه نوع من ''الاستعراض القانوني'' أو حكم الضحية وعدالة الخصم، فكيف يتم استبعاد الطابع السياسي للمحاكمة؟ وإن في هذا لثغرة كبيرة·
والذي يستشف من وراء الدافع والحماس الأميركي لهذه المحاكمة، هو تبرير غزو العراق، علماً بأن هذا الغزو الغاشم لم تمله أية ضرورة ولا استفزاز من قبل العراق، وأنه كان محل شجب واستهجان غالبية دول وشعوب العالم، بسبب عدم قانونيته وانتهاكه لسيادة العراق المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة· لكن، لو ثبت أن نظام صدام حسين كان يمثل خطراً على أمن شعبه والعالم معاً، فعندها يمكن تبرير الغزو على أساس أمني إنساني، ويمكنه حينها أن يتخذ صفة ''الحرب العادلة''· وهذا هو فيما يبدو، الدافع الأنجلو- أميركي وراء الحماس لمحاكمة صدام حسين·
إلى ذلك فقد شكل توقيت المحاكمة، عنصراً آخر لاستقطاب النقد واسع النطاق للمحاكمة· ولماذا العجلة في حقيقة الأمر؟ وهل من الحكمة أن تبدأ جلسات محاكمة صدام، في وقت يزداد فيه أوار عمليات التمرد في المنطقة المحيطة بالمحكمة مباشرة؟ وما الكياسة في إذكاء غضب المسلمين السنة في وقت تتصاعد فيه النداءات والجهود الرامية لإشراكهم في العملية السياسية؟ وما الذي يمنع من التأني والانتظار حتى لحظة خروج القوات الأجنبية من العراق؟ وفيما لو أن هذه المحاكمة عقدت عقب انسحاب القوات العسكرية الأجنبية من هناك، لكانت محكمة عراقية خالصة غير مشكوك ولا مطعون في هويتها وإجراءاتها·
وربما كانت إحدى الثغرات التي تؤخذ على المحكمة، قرارها تقديم صدام للعدالة، في عدد كبير من الاتهامات المنفصلة عن بعضها بعضاً، ابتداءً من العقوبة الجماعية التي قيل إنه أصدرها بحق شيعة بلدة الدجيل، إثر تعرض بعضهم لموكبه الرئاسي في عام ·1983 وبناءً على الأوامر المنسوبة إلى صدام حسين في تلك الحادثة، فقد لقي ما يقارب المئة وخمسين رجلاً من أهالي الدجيل حتفهم، بينما شق مئات آخرون -بمن فيهم النساء والأطفال- طريقهم إلى سجون صدام حسين الوحشية البربرية المقامة في قلب الصحراء· ومن بين الجرائم الجماعية التي سيحاكم بسببها صدام، قتل نحو 5 آلاف من مدنيي أكراد حلبجة بالغازات السامة، إلى جانب الجرائم الجماعية التي ارتكبها خلال حمامات الدم التي نظمها ضد انتفاضة الشيعة والأكراد عليه، إثر غزوه للكويت في عام ·1991
ولكن ما الذي سيحدث فيما لو ثبت تلوث أيادي صدام بدماء الفظائع التي ارتكبت في الدجيل؟ الإجابة أنه سيعدم خلال مدة ثلاثين يوماً فحسب، وفقاً لما تنص عليه نظم المحكمة المختصة بمحاكمته· وإذا ما حدث ذلك، فسيكون قد أغلق ملف التحريات فيما تبقى من سجل نظامه سيئ السمعة والصيت· وأي خسارة ستلحق بالتاريخ عندها··· أي ثغرة تحيق بتعليم الشعب العراقي! وفيما لو أراد العراقيون إعادة بناء دولتهم حقاً على مبادئ العدالة وحكم القانون، فإنهم لاشك أصح