وأخيرا بدأت محاكمة صدام حسين بعدما سبقتها بوقت وجيز عملية الاستفتاء على الدستور العراقي الذي مرَّ بسلام دون تسجيل عمليات عنف كما في الأيام السابقة· فهل يتعلق الأمر، كما يميل إلى الاعتقاد بعض المحللين، بدخول العراق مرحلة جديدة من تاريخه تتسم بالاستقرار الأمني والسلم الأهلي والديمقراطية، خصوصا إذا مرت الانتخابات المقرر عقدها في شهر ديسمبر المقبل في أحسن الظروف؟ بيد أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم التأكيد فيها على أن صفحة العنف في العراق قد طويت، وبأن الوضع بات يتحسن يوماً عن يوم· فالواقع اليومي مازال ينقل أنباء تفيد عكس ذلك قاذفة بالعراق مجددا في أتون العنف اليومي الذي لا يفرق بين المدنيين العزل وبين القوات الأميركية· وبالرغم من التصريحات المتفائلة التي تصدر عن بعض المسؤولين فإن الحالة العراقية لم تتحسن قط منذ أن أعلن عن سقوط بغداد في أبريل ،2003 بل استمر التدهور الأمني حتى بعدما ألقي القبض على صدام حسين في ديسمبر من نفس السنة، وأنشئت حكومة عراقية مؤقتة في يونيو ·2004 وازداد الوضع سوءاً خلال الانتخابات الأخيرة التي أجريت لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية في يناير ·2005 فهل يمكن اعتبار الاستفتاء على الدستور ومحاكمة صدام إيذاناً بدخول مرحلة جديدة تقطع مع مسلسل العنف السابق؟إلى ذلك اشتدت الانتقادات أكثر فأكثر ضد جورج بوش وتوني بلير، حيث لم تقتصر الأصوات المعارضة على الطريقة التي أجريت بها الحرب وما تلاها من تخبط، بل شملت أيضا قرار إعلان الحرب نفسه· وبالرغم من الجهود التي تبذلها الحكومتان الأميركية والبريطانية لجهة التخفيف من حدة الانتقادات، فإنه من غير المرجح أن تستعيد نفس الزخم الذي رافق الأيام الأولى للحرب، خصوصا في ظل المعلومات الجديدة التي تظهر تلفيق ذرائع لا أساس لها من الصحة من أجل تبرير الحرب، وفي ظل مشاهد العنف التي تتصاعد وتيرتها مع مرور الأيام· وحسب مصادر أميركية ارتفع عدد أعمال العنف من 200 عمل في الأسبوع خلال شهر مارس 2004 إلى 700 عمل في شهر أكتوبر ·2005 وتعتقد المصالح الأميركية أنه حتى لو أعيدت المؤسسات الديمقراطية إلى الواجهة واسترجعت عافيتها، فإن العنف سيستمر بلا انقطاع، حيث يرجعه المراقبون إلى مصدرين أساسيين يتمثل الأول في عمليات المقاومة السنية التي تستهدف قوات الاحتلال الأجنبية، أما الثاني فيرجع إلى العناصر الجهادية التي تتبنى العنف الأعمى وتستهدف أساساً السكان المدنيين من الشيعة·
ولئن كان مجرد خروج العراقيين في ظل هذه الأجواء المحتقنة للإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء على الدستور يستحق الإعجاب والتقدير، فإن مشروع الدستور ذاته الذي مررته الجمعية الوطنية للاستفتاء ترك مجموعة من النقاط معلقة تنتظر أن تحسم لاحقا من قبل المشرعين· وتكمن المشكلة الحقيقية التي تهدد مستقبل العراق حاليا في ظهور النزعات الطائفية والإثنية بين سكانه، حيث بات العراقيون يحددون هويتهم على أساس ديني- مذهبي، أو عرقي-جغرافي استنادا إلى التقسيمات المعروفة في العراق بين السنة والشيعة والأكراد· وإذا ما تواصلت أعمال العنف دون هوادة واختلطت معها الدوافع الطائفية، فليس مستبعداً أن ينزلق العراق إلى حرب أهلية طاحنة وطويلة تعيد إلى الأذهان المشاهد الأليمة للحرب الأهلية اللبنانية في الثمانينيات، أو الحرب اليوغسلافية خلال عقد التسعينيات· وبالطبع ما أن تندلع الحرب بين المجموعات العرقية والطائفية المختلفة حتى يتعقد الوضع ويصبح من الصعب التدخل لفض الصراع والخروج بتسوية، كما أنه لن ينفع العراق في شيء بقاء قوات الاحتلال فوق أراضيه بينما الحرب يستعر لهيبها يوماً بعد يوم· كما أنني لا أعتقد أن ما يجري في العراق حالياً يرجح احتمال حدوث انقسام سلمي على شاكلة تشيكوسلوفاكيا، حيث انفصلت جمهورية التشيك عن سلوفاكيا بطريقة سلمية ومتفق عليها·
لكن ألم يكن ذلك ما سعى إليه الأميركيون؟ ألم يشكل تقسيم العراق أحد التصورات المطروحة بقوة لدى منظري المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية؟ فالكل يتذكر كيف قام الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر بتعيين حكومة مؤقتة على أساس طائفي وعرقي مرسخاً بذلك نظام المحاصصة الطائفية التي مازال معمولا بها إلى يومنا الحاضر· وانطلاقاً من هذا المنظور يمكن فهم عملية حل الجيش العراقي وتفكيك وحداته التي أقدم عليها الحاكم الأميركي بريمر· فخلافاً لما يتم تداوله على نطاق واسع من أن ذلك كان أحد الأخطاء القاتلة للإدارة الأميركية أدى إلى حرمان البلاد من قوة كان بإمكانها الإسهام في ضمان أمن واستقرار العراق، يكمن السبب الحقيقي في رغبة الأميركيين في القضاء على مؤسسة متعددة الطوائف كانت تضم بين صفوفها جميع ألوان الطيف العراقي من سنة وشيعة وأكراد· وقد أفضى تفكيك الجيش العراقي إلى ظهور ميلشيات مسلحة تابعة لقوى طائفية معينة ستكون بلاشك وقود الحرب الأهلية في حال اندلاعها· كما أن انقسام العراق إلى كيانات منفصلة سيؤدي لا محالة إلى إحداث تغييرات جيوسياسية عميقة في المنطقة ست