في ظل استراتيجياتهما الهادفة إلى تنويع مصادر الطاقة المستوردة وضمان إمداداتها لمواجهة الطلب الداخلي المتعاظم، تخوض بكين وطوكيو منذ بعض الوقت منافسة شرسة من أجل الاستحواذ والسيطرة على النفط الروسي مستخدمتين كافة أسلحة الإغراء وأدوات التملق إلى جانب تجنيد اللوبيات الضاغطة· ومحور التنافس هنا هو مشروع عملاق لنقل النفط من حقول سيبيريا بمعدل 80 مليون طن سنويا· حيث تضغط طوكيو في اتجاه بناء خط أنابيب بطول 3700 كيلومتر ينتهي بميناء ناخودكا الروسي على سواحل بحر اليابان، عارضة 5 مليارات دولار لبنائه وملياري دولار آخرى لتطوير حقول النفط في سيبيريا· أما بكين فتضغط من أجل بناء خط أنابيب بطول 2400 كيلومتر في اتجاه شمال الصين، على أن تقوم هي بمدها داخل الأراضي الصينية وصولا إلى مدينة داكينغ، عارضة استثمار 12 مليار دولار في القطاع النفطي الروسي خلال الأعوام الخمسة عشر القادمة·
ولكلا المقترحين، بطبيعة الحال، إيجابيات وسلبيات من وجهة نظر اقتصادية بحتة· فالمقترح الياباني ينطوي على تكاليف إضافية ضخمة بسبب طول الخط المقترح، لكنه في الوقت نفسه يعني بيع نفط سيبيريا إلى زبائن آخرين غير اليابان· أما المقترح الصيني فإنه ينطوي على تكاليف أقل لكنه يضع روسيا تحت رحمة مشتريات وشروط زبون واحد· وربما لو أن الاحتياطيات النفطية في سيبيريا أكبر من تلك المعروفة لكان بالإمكان تبرير الدعوة إلى الأخذ بالمقترحين الياباني والصيني معا، أي ببناء خطين من الأنابيب الممتدة عبر أراضي روسيا في الشرق الأقصى·على أن الاعتبارات الاقتصادية والمعايير التجارية تبدو هنا غير ذي أهمية ومتراجعة إلى الخلف لصالح اعتبارات جيوسياسية واستراتيجية مختلفة ومتداخلة· ولولا هذا لكانت موسكو قد حسمت الموضوع مبكرا لصالح هذا الطرف أو ذلك، بدلا من التردد وإعطاء إشارات متضاربة ودخول صناع قرارها في جدل طويل منذ ظهور المشروع لأول مرة قبل سنوات كفكرة تبنتها شركة ''يوكوس'' التي كانت حتى وقت قريب من كبرى مؤسسات تصدير النفط في روسيا· والجدير بالذكر أن يوكوس، قبل اعتقال صاحبها ''ميخائيل خودوركفوسكي'' ووضع اليد على أصولها لسداد ما قيل إنه ضرائب متأخرة للدولة بمبلغ 10 مليارات دولار، كانت تتبنى الخيار الصيني·
عند الدخول في تفاصيل الاعتبارات التي تدفع طوكيو إلى القتال من أجل تبني خيارها بأي ثمن، نجد أنها تنحصر في أمرين رئيسيين: الأول هو أن تنفيذ مقترحها يعني استغناءها عن نسبة قد تصل إلى 20 بالمئة من وارداتها النفطية من الشرق الأوسط مع كل ما يتبع ذلك من الحصول على إمدادات نفطية مضمونة وغير خاضعة لتقلبات الأحوال السياسية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط وفي المحيط الهندي حيث تمر شحنات النفط في طريقها إلى الشرق الأقصى، إضافة إلى الوفرة الناجمة عن كلفة الشحن المنخفضة كنتيجة لقرب ميناء ناخودكا من أراضيها· أما الأمر الثاني فهو أن الاتفاق مع الروس حول هذا المشروع يعني إعطاء دفعة قوية إلى روابط اليابان الاقتصادية مع روسيا والتي تراجعت في العقد الأخير بسبب الصعود الاقتصادي للصين وحلولها في مركز الشريك التجاري الأهم لموسكو على حساب اليابان·
أما الصينيون فلئن كانوا ينظرون إلى الاعتبار الأول بنفس الطريقة والأهمية فإن حاجاتهم المتزايدة للطاقة بشكل صاروخي يجعلهم أكثر استماتة من أجل الأخذ بمقترحهم· خاصة وأن الأمر يعزز ويكمل أجندتهم الرامية إلى النفاذ نفطيا وتجاريا إلى آسيا الوسطى السوفييتية سابقا· ذلك أن النظام الحاكم في بكين يعلم جيدا أن أي فشل أو نقص في مواجهة الطلب الداخلي على الطاقة والمواد الأولية لن يؤدي فقط إلى تراجع النمو الاقتصادي الذي يستمد منه شرعية بقائه وإنما أيضا إلى حالة من اللااستقرار المؤدي إلى ضعضعة مركزه·
لكن ماذا عن موسكو وحيرتها ما بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في آسيا، والتي تجلت في تصريحات ووعود متضاربة لرئيسها فيلاديمير بوتين ورئيس حكومتها ميخائيل فرادكوف ومسؤوليها النفطيين؟
تحاول روسيا بطبيعة الحال أن تستثمر التنافس الصيني-الياباني لجني أكبر قدر من المكاسب والمحافظة على موقعها كثاني أكبر منتج للنفط في العالم، خاصة وأنها اليوم تنظر إلى النفط كبديل للقوة العسكرية في تقوية نفوذها واستعادة ما كان لها من مكانة عالمية زمن الاتحاد السوفييتي· إلا أن الاعتبارات الجيوسياسية والاستراتيجية كما قلنا آنفا تلعب دورا في ترددها وعدم قدرتها على الحسم· فمن ناحية نجدها منجذبة إلى الخيار الصيني بسبب رغبتها في علاقات أمتن مع هذا القطب الآسيوي الكبير لمواجهة تعاظم النفوذ الأميركي، ولاسيما في الفضاء السوفييتي السابق، خاصة وأن البلدين شريكان في منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي ويقودانها· وما تسرب عن اجتماع رؤساء حكومات دول المنظمة في موسكو قبل أيام من أنباء عن وجود نية لتأسيس تحالف عسكري بين الدول الأعضاء بهدف تقليص النفوذ الأميركي في آسيا الوسطى لهو خير دليل على ما نقول·
غير أن روسيا في الوقت نفسه تخشى من الصعو