منذ أن دخلت قوات الدول المتحالفة العراق واستقر لها الأمر بعد سقوط نظام حزب البعث، وهي تصرح بأنها ستقوم بتسليم المسؤولية الأمنية إلى العراقيين، ومع مرور الوقت وفي أعقاب معركة الفلوجة الأولى (أبريل 2004)، ظهرت إلى السطح مجموعة من الأسئلة حول الهدف من إحالة مسؤولية الأمن إلى العراقيين· إن هذا الهدف فيما يبدو كان دائماً معتقداً راسخاً في استراتيجية الدول المتحالفة في العراق منذ اللحظة الأولى للاحتلال· ومن الواضح أنه كهدف استراتيجي يقوم على الافتراض بأن قوات الدول المتحالفة ستكون ذات فعالية أقل بالنسبة لعمليات الحد من أعمال المقاومة الشعبية العراقية مقارنة بما يمكن أن يقوم به العراقيون أنفسهم·
وإلى هذه المرحلة فإن المحاولات المبدئية لإقامة منظومة قوات أمن عراقية متكاملة، لا زالت إشكالية إلى حد بعيد· وما أن دخلت قوات الدول المتحالفة العراق حتى تم إلغاء الجيش العراقي وأمر ضباطه وجنوده بالاستسلام والتخلي عن أسلحتهم والذهاب إلى منازلهم، لذلك فإن قوات الدول المتحالفة بحاجة الآن إلى بناء جيش عراقي آخر، ولكي تحقق ذلك عليها أن تبدأ من نقطة الصفر· ومع شبه الهزيمة التي تعرضت لها قوات الجيش العراقي الجديد عندما انسحبت من معركة الفلوجة الأولى نتيجة لعدم اكتمال عمليات إعدادها وتدريبها، لجأت الدول المحتلة للعراق إلى إعادة ترتيب أوضاع تلك القوات مجددا، فكان التركيز منصباً هذه المرة على هدف محدد هو إعدادها كقوات قادرة على مواجهة أعمال المقاومة الشعبية المتزايدة·
لقد ثبت أن هذا الإجراء أكثر نجاحاً من المحاولات السابقة، والدليل على ذلك هو أن المعارك التي خاضتها القوات الجديدة إلى جانب قوات الدول المتحالفة في معارك الفلوجة الثانية (نوفمبر 2004) وتلعفر (سبتمبر 2005) والمدن المتاخمة للحدود السورية في أوقات متفرقة حققت فيها نجاحات ملموسة من وجهة نظر قوات الاحتلال· ولكن سؤالاً جوهرياً يبقى وهو: هل الخيار الاستراتيجي الأمثل بالنسبة لقوات الاحتلال، لكي تتمكن من الخروج من العراق في أقرب فرصة، هو القيام ببناء المزيد من القوات العراقية القادرة على التصدي لعمليات المقاومة؟ إن هذا السؤال ربما يكون مركزياً في استراتيجية هذه الدول في العراق هذه الأيام، ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أن عدم بناء جيش عراقي قادر، وقوات أمن داخلي متمكنة قد يعرض العراق لكوارث مستقبلية لا يمكن التكهن بها على ضوء الأوضاع الداخلية السائدة فيه والوضع الإقليمي المرتبط بذلك·
وعلى ضوء نتائج الانتخابات التي جرت في بداية ،2005 وإقرار الدستور الذي تم في أكتوبر الماضي، فإن الأطراف المحتلة للعراق تبدو بأنها مصممة على تحويل السيادة إلى حكومة عراقية منتخبة في أسرع وقت ممكن· ولو حدث وأن تم ذلك فإن الدول المحتلة ستعمل على تشجيع الحكومة الجديدة على المضي قدماً في الإجراءات الديمقراطية التي تم إرساء لبنتها وعلى تثبيت الإجراءات الدستورية الواردة في الدستور الجديد، وإن أدخلت على بعض بنوده تعديلات وفقاً لمطالب العرب السنة·
إن الصراع السياسي والعسكري الدائر الآن في العراق معقد جداً، ولا يمكن للأوضاع أن تستقر على وتيرة واحدة في الأوقات المقبلة· فعلى ضوء إعادة بناء الأجهزة الأمنية بكافة فروعها، والانشقاق الذي برز إلى السطح مؤخراً في صفوف قيادات العرب السنة حول مسائل تتعلق بالمشاركة في العملية السياسية، وتمكن قوات التحالف من تحقيق تقدم على صعيد المواجهة مع المقاومة، فإن الأوضاع الأمنية والسياسية الداخلية ربما تستقر على مدى السنتين القادمتين· ولكن المقلق في الأمر هو مستقبل العراق الأمني على الصعيد الخارجي، فالعراق الآن بات دون جيش نظامي قوي يمكنه مواجهة ما يخبئه الزمن للعراق على صعيد بيئة الأمن الإقليمي· إن أطماع جيران العراق في أراضيه وخيراته لا تخفى على أحد، وهي دفينة لدى البعض منذ أمد طويل· فهل ستقوم قوات الدول المتحالفة في العراق بحمايته والعودة إليه ثانية عند الحاجة بعد أن تغادره؟ هناك شكوك قوية ومبررة في أن يحدث ذلك·