يعتبر كتاب المفكر القدير لستر ثورو "head to head" حول الصراع لقادم بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا واليابان أحد أهم الكتب التي صدرت في العقد الماضي، وهو يتناول جوانب التطور الاقتصادي والتقني والتعليمي لدى الأطراف الثلاثة، مبيناً جوانب القوة والضعف لديها·
ومع أن ''ثورو'' يتطرق في مؤلفه إلى الصين في الكثير من الأحيان، إلا أنه لا يضعها على قدم المساواة مع الأطراف الثلاثة الأخرى فيما يتعلق بالصراع القادم، وهو صراع ذو طابع اقتصادي بصورة أساسية·
ما حدث من تطور في العلاقات الاقتصادية الدولية في السنوات العشر الأخيرة، أي بعد صدور مؤلف ''ثورو'' قلب العديد من الموازين والتقديرات السابقة، فالاقتصاد الياباني تراجع بشدة ولم يتمكن على مدى سنوات طويلة من الخروج من حالة الركود التي يمر بها، مما أثر في نسب النمو السنوية التي سجلت حالات سالبة في معظم الأحيان·
في نفس الوقت حقق الاقتصاد الصيني قفزات متتالية ونسب نمو لم يتوقعها أكثر الاقتصاديين تفاؤلا، فالاقتصاد الصيني نما بمعدل 10% خلال السنوات القليلة الماضية، وشمل هذا النمو مختلف القطاعات الاقتصادية، بحيث أصبحت الصين تستورد 40% من صادرات الحديد في العالم، كما تضاعفت تقريباً وارداتها من النفط، بل إنها كانت سببا رئيسيا في ارتفاع أسعار العديد من المواد الأولية في العالم خلال السنوات الثلاث الماضية·
أما الصادرات الصينية عالية الجودة والرخيصة، فقد شكلت هماً لمعظم بلدان العالم، الغني منها والفقير على حد سواء، فأوروبا اضطرت إلى وقف وارداتها من الملابس الجاهزة والنسيج من الصين خارقة بذلك تحرير هذه التجارة في نطاق منظمة التجارة العالمية، في حين تضررت صناعة الملابس في الكثير من بلدان العالم، وبالأخص المغرب وتونس ومصر وتم الاستغناء عن عشرات الآلاف من الأيدي العاملة في هذه الصناعة، وذلك بسبب المنافسة القوية القادمة من التنين الصيني المنطلق بسرعة البرق·
بدورها طلبت الولايات المتحدة إعادة النظر في جوانب عديدة من علاقاتها التجارية مع الصين والتي بدأت في اكتساح الأسواق العالمية بمنتجاتها مستفيدة من تدني الأجور ورخص الأيدي العاملة المدربة لديها، حيث تضاعف فائض ميزانها التجاري هذا العام مرتين ليصل إلى 100 مليار دولار·
الصين في انطلاقتها هذه تحاول الاستفادة من التجربة اليابانية، فاليابان بعد الحرب العالمية الثانية قامت نهضتها على استيراد التكنولوجيا الغربية وإعادة إنتاجها بأسعار رخيصة، وهو العمل ذاته الذي تقوم به الصين في الوقت الحاضر·
ورغم الضغوط الأميركية والأوروبية الخاصة بضرورة احترام حقوق الملكية الفكرية، فإن السلع المنتجة خارج نطاق هذه الحقوق تغزو العالم وفي كافة الاتجاهات·
لكن هل تصاب الصين بعدوى اليابان وتمر بفترة ركود طويلة بعد فترة من الزمن؟ لا نعتقد ذلك، فمع أن مجتمعي اليابان والصين تجمعهما صفات مشتركه، كما هو حال مجتمعات شرق آسيا، وبالأخص تلك الصفات المتعلقة بالانغلاق وعدم الترحيب الكبير بالأيدي العاملة والكفاءات الأجنبية، على عكس المجتمعات الأميركية والأوروبية، فإن الصين تعتبر دولة عظمى تتوفر لديها العديد من الإمكانيات والفرص التي لا تتوفر لليابان·
ضمن أمور أخرى عديدة، تملك الصين الكثير من الثروات الطبيعية، كما أن عدد سكانها الذي يتجاوز ملياراً وثلاثمائة مليون نسمة يعتبر عالما بذاته، هذا إلى جانب قوتها العسكرية وقدرتها الكبيرة على جذب رؤوس الأموال الأجنبية·
وحسب تقديرات الكثير من الخبراء الاقتصاديين، فإن الصين إذا ما استمرت في هذه الاندفاعة الاقتصادية، فإنها يمكن أن تتحول إلى أكبر قوة اقتصادية بحلول عام 2050 متجاوزة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان·
أدرك أن لستر ثورو لديه رأي يستبعد هذا الاحتمال، إلا أن التطورات الأخيرة في العلاقات الاقتصادية في العالم تفرض اصطفافا جديدا للقوى، ربما يقود إلى الحديث قريبا عن الصراع القادم بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والتنين الصيني المنطلق بدلا من السوشي الياباني المتردد·