كنت في طفولتي مغرماً بقراءة باب ''صدق أو لا تصدق'' في إحدى الصحف المصرية، وكانت مشاعر الإثارة تغمرني بسبب ما تتضمنه سطور هذا الباب من وقائع أغرب من الخيال، ومع مرور السنين بدأت أنصرف عنه بالتدريج ربما لزيادة في نضجي العقلي أو لتدهور في درجة إثارة الأحداث التي كان ذلك الباب ينشرها، ولابد لي أن أعترف أنني وجدت نفسي في مطلع هذا الشهر أعود إلى أجواء ''صدق أو لا تصدق'' عندما شاهدت بالصدفة البحتة برنامجاً في إحدى الفضائيات العربية علمت منه أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تبنت بدون تصويت ودون معارضة قراراً يحدد يوم 27 يناير يوماً سنوياً لتخليد ذكرى اليهود الذين قضوا فيما يعرف بالمحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية·
لم يكن مبعث دهشتي أن يصدر مثل هذا القرار عن الجمعية العامة، فمن الواضح لكل مراقب أن النجم الإسرائيلي صاعد في الأمم المتحدة، فبعد أن ساوت الجمعية العامة الصهيونية بالعنصرية في سبعينيات القرن الماضي تراجعت عن قرارها فيما بعد، وبعد أن كان الإسرائيليون يقولون إن الأمم المتحدة معادية لإسرائيل، ويصف مندوبهم لديها جمعيتها العامة بأنها أغلبية لاأخلاقية ومعادية لإسرائيل طرأ تغير على العلاقة بين الطرفين في الآونة الأخيرة، وقد ذكر بعض التقارير أن رئيس وزراء إسرائيل قد حظي في القمة العالمية التي عُقدت مؤخراً في نيويورك بترحاب واضح كمكافأة له على انسحابه من غزة، كما نذكر أن الجمعية العامة كانت قد خصصت جلسة خاصة للاحتفال بالذكرى الستين لنهاية الحرب العالمية الثانية ولما وصفته بالجرائم النازية ضد اليهود· ثمة مؤشرات إذن على أن عصر مشروعات القرارات التي تدين إسرائيل وتحظى بموافقة جماعية عدا أصوات إسرائيل والولايات المتحدة وميكرونيزيا قد ولت، وأن النفوذ العربي في الأمم المتحدة في تراجع مطرد·
لكن مبعث الدهشة ارتبط بأمور أخرى لعلي أختار منها ثلاثة: الأول يتعلق بالطريقة التي صدر بها القرار والثاني بمضمونه، والثالث بردود الفعل العربية له·
أما طريقة صدور القرار فتشير إلى أن الجمعية العامة قد وافقت عليه دون تصويت ودون اعتراض، ويعني هذا ببساطة أن دولة واحدة لم تجد في نفسها الجرأة للاعتراض عليه، وليس الاعتراض المطلوب على فكرة القرار: تخليد ذكرى ذات طابع إنساني، وإنما على التعصب الظاهر في هذه الفكرة والمنطلق من حصر المعاناة الإنسانية في فئة محددة هي اليهود على نحو ما سيجيء· صحيح أن ممثلي بعض الدول قد أعربوا عن تحفظاتهم، فأعلن المندوب المصري الدائم لدى الأمم المتحدة أن تخليد ذكرى ضحايا جريمة الإبادة الجماعية يجب أن يتم على كافة المستويات، وليس فقط فيما يتعلق بضحايا الهولوكوست، ولكن أيضاً فيما يتعلق بالضحايا الذين قتلوا من المسلمين والمسيحيين في رواندا، والمسلمين في البوسنة والهرسك، وغيرهم من ضحايا إبادة الجنس البشري في كافة أرجاء العالم، كذلك أعلن المندوب الأردني أن الدعوة إلى عدم تكرار المحرقة تُستخدم أحياناً كتبرير أخلاقي لقيام دولة بتنفيذ سياسات ينتج عنها تواصل سيطرتها على شعب آخر·
نأتي بعد ذلك إلى مضمون القرار، وتلفت النظر فيه ثلاثة أمور على الأقل أولها يتعلق بالتناقض الظاهر بين ديباجته ومضمونه، إذ تشير الديباجة إلى أن المحرقة لا تخص اليهود وحدهم: ''وإذ تؤكد من جديد أن محرقة اليهود التي أدت إلى مقتل ثلث الشعب اليهودي ومعه عدد لا يحصى من أفراد الأقليات الأخرى ستظل إلى الأبد إنذاراً لجميع الناس بأخطار الكراهية والتعصب والعنصرية والتحيز''·
الديباجة تعترف إذن بأن آخرين من غير اليهود قد قتلوا في المحرقة، ولا يدري المرء أكان استخدام كلمتي ''عدد لا يحصى'' لتقدير ضحايا غير اليهود في المحرقة يعني من قبيل البلاغة أن عددهم كبير للغاية؟ أم أنه يشير إلى العجز عن تقدير عددهم؟ وهنا يتساءل المرء عن السبب في القدرة على إحصاء ضحايا اليهود بدقة (ثلث الشعب اليهودي) والعجز عن إحصاء غيرهم من الضحايا، غير أن هذا ليس هو المهم، فالأهم منه أنه بينما اعترفت الديباجة بضحايا غير يهود للمحرقة إذا بمتن القرار يخصص يوم 27 يناير يوماً دولياً سنوياً لإحياء ذكرى ضحايا محرقة ''اليهود'' بصفة خاصة، وهو معنى يشيع بوضوح في باقي بنود القرار·
أما الأمر الثاني في مضمون القرار فهو أنه يصادر وإلى الأبد على حرية البحث العلمي في موضوع المحرقة، إذ ينص بنده الثالث على رفض ''أي نكران كلي أو جزئي لموضوع محرقة اليهود كحدث تاريخي''، وليس هناك عاقل يمكنه أن ينكر المحرقة إنكاراً كلياً، لكن المقصود بالنكران الجزئي بكل تأكيد -أو على الأقل يمكن أن يُفسر على أنه كذلك- أنه لم يعد مطروحاً أن يتحدث باحث مستقبلاً عن أن ضحايا المحرقة هم ربع الشعب اليهودي وليسوا ثلثه، أو أنهم ثلاثة ملايين وليسوا ستة··· إلخ·
وأخيراً فإن القرار قد حث الدول الأعضاء في بنده الثاني على وضع برامج تعليمية educational لترسيخ الدروس المستفادة من محرقة اليهود في أذهان الأجيال المقبلة للمساعدة في الحيلولة دون وق