يمكن القول إن الفجوة بين النظرية والتطبيق التي يمكن ملاحظتها في كل المجتمعات الديمقراطية المعاصرة بالغة الاتساع في الدول النامية، إذا ما قورنت بالدول المتقدمة· ويرد ذلك في الواقع إلى عديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية· وعلى رأس العوامل السياسية في المجتمعات النامية سيادة النظم الشمولية والسلطوية، وما تركته من آثار سلبية عميقة في السلوك السياسي المعلن للجماعات والأفراد، وفي اللاشعور السياسي ذاته·
وإذا كانت بعض النظم السلطوية تحاول الآن -تحت تأثير مطالب الداخل وضغوط الخارج- الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية، فإن عملية الانتقال تقابلها صعوبات شتى من قبل الحاكمين والمحكومين على السواء· وهكذا يمكن القول إن السلطوية تقف على رأس قائمة العوامل السياسية المؤدية إلى اتساع الفجوة بين المبادئ النظرية للديمقراطية وبين التطبيق· غير أنه بالإضافة إلى ذلك هناك عوامل سياسية أخرى، أهمها ضعف الأحزاب السياسية، وانعدام تأثير مؤسسات المجتمع المدني إذا وجدت في المجتمع·
ولاشك أن ضعف الأحزاب السياسية يردُّ -في جانب منه- إلى تأثير السلطوية القامعة التي حاربت التعددية الحزبية حتى تنفرد بالمسرح السياسي، وحتى إذا قبلت بها فإنها تضع قيوداً متعددة على حركة الأحزاب السياسية المعارضة لحساب الحزب الحاكم أو المسيطر حتى تفقدها فاعليتها، وتمنع تأثيرها على اتجاهات الناخبين السياسية· وإذا أضفنا إلى ذلك الضعف الداخلي للأحزاب السياسية ذاتها، من ناحية عجزها عن التجدد الإيديولوجي، وعدم قراءتها الدقيقة لتغيرات المجتمع العالمي، وافتقارها للديمقراطية داخلها، وعدم قدرتها على ضم مجموعات كبيرة من الشباب إليها، أدركنا أحد أسباب الفجوة بين النظرية والتطبيق في الديمقراطية·
غير أن هناك أسباباً اقتصادية تؤثر بالسلب على تطبيق المثال الديمقراطي، ويتمثل ذلك في قوة رأس المال، وتأثير رجال الأعمال السلبي على سير العمليات الانتخابية من ناحية، والفقر الشديد لجماعات شتى من الناخبين من ناحية أخرى· والتأثير السلبي لرأس المال ظاهرة ملحوظة حتى في بلاد لها تاريخ في الديمقراطية مثل الولايات المتحدة الأميركية·
وإذا كان نفوذ رجال الأعمال قد ارتفع بشدة في بعض المجتمعات العربية التي تنتقل ببطء من السلطوية إلى الديمقراطية، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية في ظل إيديولوجية الليبرالية الجديدة، فلنا أن نتوقع التأثير السلبي لدخولهم حلبة السياسة مباشرة أو بالوكالة!
ويبدو هذا التأثير أولاً في مجال الإنفاق واسع المدى على الحملات الانتخابية سواء نزلوا الانتخابات بأنفسهم، أو كانوا يدعمون مرشحين معينين، بما يتجاوز أي سقف تضعه الحكومة للإنفاق الانتخابي·
في مصر -على سبيل المثال حيث تجرى انتخابات بالغة الأهمية من حيث توفر ضمانات النزاهة فيها إلى حد كبير -وضع حد أعلى للإنفاق الانتخابي بما لا يتجاوز سبعين ألف جنيه للمرشح الواحد· غير أن الشواهد العملية تشير إلى أن بعض المرشحين أنفقوا أحياناً عشرات الملايين لكي يضمنوا حصولهم على المقعد النيابي الذي سيمنحهم الحصانة، ويكون مدخلهم للدفاع عن مصالحهم الطبقية، وزيادة نفوذهم الاجتماعي· وإذا أضفنا إلى هذه التأثيرات السلبية لرأس المال نزوع عدد من المرشحين الأغنياء لرشوة الناخبين الفقراء عن طريق شراء أصواتهم بثمن يدفع نقداً أو عيناً، أدركنا كيف أن المساحة تتسع حقاً بين المثال الديمقراطي والتطبيق الواقعي· وقد لا يصل التأثير السلبي لرأس المال إلى حد الرشوة الانتخابية كما أشرنا، وإنما قد يمارس نفوذه من خلال تأسيسه لمشروعات خدمية في الأحياء أو القرى الفقيرة التي هي في أشد الحاجة إلى الخدمات الأساسية، مما يجعل الناخبين يعطون أصواتهم لمن يقومون بهذه المشروعات أيا كانت توجهاتهم السياسية· وهنا بالذات مكمن الخطورة، لأن الانتخابات -في المثال الديمقراطي- تعني في المقام الأول الاختيار الحر للمواطن للتصويت لمرشح معين بناء على البرنامج السياسي الذي يطرحه للناس· غير أنه إذا كان التصويت سيتم للمرشح الذي يقدم الخدمات للناس مهما كانت هويته تقدمية أم رجعية، يمينية أم يسارية، فمعنى ذلك أن عموداً أساسياً من أعمدة المثال الديمقراطي قد سقط وتهاوى·
غير أنه بالإضافة إلى الأسباب السياسية والاقتصادية التي تحول دون التطبيق الكامل والفعال للمثال الديمقراطي، هناك أسباب اجتماعية وثقافية متعددة· ولعل في مقدمة هذه الأسباب الاجتماعية أن القبلية تسود إلى حد كبير في عديد من المجتمعات العربية، سواء في المجتمعات الحضرية أم الريفية أم البدوية· والقبلية هنا لا تشير فقط إلى انتشار وتعدد وصراع القبائل بالمعنى التقليدي للكلمة، بما يتضمنه ذلك من التشيع لابن القبيلة في مواجهة أبناء القبائل الأخرى، ولكنها تشير أيضاً إلى الأسر الممتدة والعائلات الكبيرة حيث يتم الانحياز إلى أبناء الأسر والعائلات في الانتخابات أيا كانت اتجاهاتهم السياسية، وسواء كانوا ينتمون إلى الحزب الحاكم أو الحزب