كشفت الأحداث المحلية في دول القرن الأفريقي عن وجود قوى أثنية- وطنية واقتصادية ذات جذور راسخة وأبعاد سياسية لها وزنها الثقيل في الأحداث والسياسات التي تجري في داخل تلك الدول، وبين بعضها بعضاً· وتفاعلت العديد من المعطيات والعناصر لكي ينتج عنها انهيار الدولة في الصومال، ونظام مانجيستو هايلاميريام في إثيوبيا، وبروز جيبوتي كدولة مستقلة، وتفتت الدولة الإثيوبية إلى دولتين مستقلتين هما إثيوبيا وإريتريا·
ثم بعد ذلك هدأت أحداث المنطقة نسبياً باستثناء استمرار الحرب الأهلية في الصومال· ولكن القرن الإفريقي في تاريخه المعاصر لم يتعود على الهدوء، فإلى جانب الصومال كانت تدور رحى حروب أهلية في داخل إثيوبيا وفي إريتريا عندما كانت جزءاً من إثيوبيا، وفي جيبوتي·
ومع مضي الزمن، وبعد استقلال إريتريا بسبع سنوات تقريباً نشبت في الفترة من 1998 إلى 2000 حرب طاحنة ضروس بين إثيوبيا وإريتريا، أودت كما تقول تقديرات الأمم المتحدة بحياة حوالى سبعين ألف نسمة· ويعود سبب نشوب تلك الحرب جزئياً إلى خلاف البلدين على حقوق الوصول إلى الموانئ على البحر الأحمر، فعندما حصلت إريتريا على الاستقلال عام ،1991 أصبحت إثيوبيا دولة مغلقة لا توجد لها منافذ بحرية· ورغم الهدوء النسبي الذي ساد إلا أن الأوضاع القابلة للانفجار بقيت كامنة كالجمر تحت الرماد، وتنتظر من ينفخ فيها لكي تشتعل· إن ذلك الهدوء حدث نتيجة لتدخل الأمم المتحدة بين الطرفين وتشكيلها لجنة لحل الخلاف بينهما، تلك اللجنة اجتهدت لترسيم الحدود، وضمن ما توصلت إليه كان منح إريتريا بلدة حدودية تسمى بادمي، ولكن يبقى أن إثيوبيا لم تقبل بذلك واستمرت في المطالبة بإعادة البلدة إلى سيادتها·
إن الأمم المتحدة تحتفظ بقوات حفظ سلام لها في المنطقة، وتقوم بمراقبة الحدود المشتركة بالطائرات العمودية، ولكن في الخامس من أكتوبر 2005 خرجت إريتريا على العالم لكي تعلن أنها منعت طائرات الأمم المتحدة من التحليق في مساحات واسعة من مجالها الجوي، الأمر الذي دفع بسكرتير الأمم المتحدة إلى التهديد بسحب قوات حفظ السلام من الحدود المشتركة بين البلدين· إن هذا التصرف الإريتري المفاجئ قد لا يثير الاستغراب كثيراً في ضوء العديد من المواقف التي تثير الدهشة التي وقفها النظام الإريتري الحاكم منذ الاستقلال، ولكن سؤالاً ملحاً يطرح نفسه هو: لماذا أقدمت إريتريا على ذلك في هذا التوقيت بالذات؟
إن منع إريتريا طائرات الأمم المتحدة من التحليق ربما يكون تصرفاً يقصد من خلاله لفت انتباه المجتمع الدولي إلى المشكلة، على أمل أن توجه ضغوط أكبر إلى إثيوبيا لكي تعترف بوضع بادمي الذي أقرته لجنة الأمم المتحدة· وربما يعد هذا عاملاً مهماً ومنطقياً، ولكن توجد احتمالات ودوافع أخرى لا تقل عن سابقتها أهمية· فالأنباء الواردة من إريتريا تتحدث عن وجود نقص شديد في كميات الوقود المطروحة في الأسواق نتيجة للعجز الشديد في الكميات المستوردة منه من الخارج· إن مثل هذه الأنباء تلقي الضوء الشديد على حالة القطر الاقتصادية المتردية التي ربما تخلق للنظام مشاكل حقيقية على صعيد الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني·
لذلك فإن النظام قد يقدم على حرب جديدة مع إثيوبيا لنقل المشاكل الداخلية إلى الخارج حفاظاً على بقاء النظام· وهذا الأمر الأخير لو حدث قد يفسر سبب نقص الوقود في العاصمة أسمرة وبعض المدن الرئيسية الأخرى، الذي يبدو أنه يحجب عن الاستخدامات المدنية لكي يتم استخدامه لاحقاً للأغراض العسكرية القتالية· وبرغم أن التقارير الواردة من المناطق الحدودية لا تشير إلى ما يعزز هذا الطرح، إلا أنه قياساً على تصرفات سابقة للنظام الإريتري فإن تصرفاً من هذا القبيل لا يعد غريباً أو مستبعداً، فهو كنظام قد يقدم على إعادة الصراع الدامي إلى القرن الإفريقي إذا كان ذلك يخدم مصالحه في البقاء في السلطة·