قرر الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي منح هبة قدرها اثنا عشر مليون ''يورو'' لفريق من الباحثين الدوليين بقيادة جامعة ''نيوكاسل'' البريطانية، لغرض تطوير أسلوب جديد للكشف عن الأمراض السرطانية يعتمد على النانوتكنولوجي ((Nanotechnology، أو تكنولوجيا هندسة الأجسام متناهية الدقة· وقبل استعراض جوانب وتبعات هذا الخبر، يجب أن نتوقف قليلا عند النانو· فكلمة النانو مشتقة من اللغة اليونانية القديمة، وتعني القزم أو الصغير· وفي العصر الحديث أصبح النانو يستخدم كوحدة قياس، مثله في ذلك مثل ''الملِّيم''· فكما نستخدم حاليا الملليجرام لقياس الوزن، والملليمتر لقياس الطول أو الحجم، يمكن أن نستخدم أيضا النانوجرام أو النانومتر لقياس الوزن والطول على التوالي· ولكن في الوقت الذي يشكل فيه ''المليم'' واحداً على الألف من وحدة القياس الأساسية، يعتبر النانو واحداً على الألف مليون من وحدة القياس الأساسية· أي أنك إذا ما أضفت ألف ملليمتر معا فسوف تحصل في النهاية على متر واحد، ولكن للحصول على المتر نفسه يجب عليك أن تجمع معا مليارا أو ألف مليون نانومتر· وينطبق نفس الكلام على الزمن، فبإضافة مليار أو ألف مليون نانو- ثانية معاً، نحصل في النهاية على ثانية واحدة فقط· هذه الأمثلة تظهر لنا مدى تناهي النانو في الحجم، وتساعدنا أيضا على تخيل مدى دقة وصغر الأجسام والأجزاء التي تبنى بمقاييس النانو· فمثلا يحاول فريق العلماء السابق، تصنيع جهاز استشعار أو مجس حيوي (biosensor) في شكل قرص بحجم ذرة التراب، يمكنه الكشف عن وجود البروتينات التي تنتجها الخلايا السرطانية، وبالتالي الكشف عن وجود السرطان في مراحله المبكرة جداً· فالمعروف أن الخلايا السرطانية تنتج جزيئات من البروتينات، أو غيرها من المواد الكيميائية، التي لا تنتجها خلايا الجسم الطبيعية، وتعرف بعلامات أو بروتينات السرطان .(cancer markers) وبالاعتماد على هذه الحقيقة، يحاول العلماء تصنيع قرص متناهي الصغر، يقل في حجمه عن واحد من عشرة من الملليمتر، يتم طلاؤه بمواد خاصة لها قابلية الالتصاق والاتحاد ببروتينات السرطان سابقة الذكر· وفي الأحوال العادية، سيتم ضبط القرص إليكترونياً بشكل يجعله يهتز بانتظام وبصفة مستمرة· ولكن عند تعرضه لبروتينات السرطان، والتصاق جزء منها بسطحه، فسوف يختل توازن القرص، وتختل بالتالي اهتزازاته من حيث القوة والنوعية· هذا الاختلال لن يستدل منه فقط على وجود خلايا سرطانية، بل ربما يمكنه أيضا، ومن خلال قياس الذبذبات الصادرة، التعرف على نوع السرطان وتحديد مدى انتشاره· فنظرياً يمكن للقرص، وبسبب دقة حجمه وخفة وزنه، أن يكشف عن وجود جزيء واحد فقط من جزيئات البروتينات التي تنتجها الخلايا السرطانية، وهو ما من شأنه أن يمنح الأطباء قدرة على التشخيص المبكر جدا، لم تكن متاحة لهم من قبل·
فالمعروف أن التشخيص المبكر للأمراض السرطانية بالذات، يلعب دوراً كبيرا في زيادة احتمالات الشفاء والنجاة، وهي الحقيقة التي تظهرها وتؤكدها الدراسات العلمية والتقديرات الصحية في دول العالم المختلفة· ففي الولايات المتحدة مثلا، يصاب مليون وأربعمائة ألف شخص بالسرطان سنوياً، يلقى أكثر من نصف مليون منهم حتفهم في النهاية· ولكن الدراسات تلو الأخرى، تظهر جميعها أن الكشف المبكر من خلال الفحوص الطبية المسحية، يمكنه أن يخفض من تلك الوفيات بنسبة تتراوح ما بين 3% إلى 35%· ولكن هذه الفحوص الطبية المسحية لا زالت تواجه مشكلات علمية وفنية، تعيقها عن أن تصبح ممارسة يومية عادية، وتمنعها من أن تكون أكثر فاعلية في اكتشاف الأمراض السرطانية في مراحلها المبكرة· وربما كان أفضل مثال لتوضيح هذه الحقيقة هو سرطان البروستاتا، الذي يتسبب في كم هائل من الوفيات حول العالم سنوياً، إلا أنه مرض يمكن علاجه إذا ما تم تشخيصه مبكراً· ولكن تكمن المشكلة في أن سرطان البروستاتا لا تظهر أعراضه إلا في المراحل المتأخرة، حينما يصبح العلاج عديم الجدوى· ولذا يسعى الأطباء إلى الوصول إلى فحص روتيني، يمكنه الكشف عن المرض في مراحله المبكرة، حتى يمكن علاجه وتخليص المريض منه قبل أن يستفحل وينتشر إلى الأعضاء الأخرى· وهذا الفحص موجود بالفعل ويعرف بالمضاد الملازم للبروستاتا أو .(PSA) وهو ببساطة عبارة عن تحليل دم، يظهر وجود ارتفاع في نوع خاص من البروتينات يترافق مع وجود الخلايا السرطانية· ولكن تكمن المشكلة في أن الكثير من الحالات التي تصاب بسرطان البروستاتا، لا يحدث لديها ارتفاع في هذا البروتين، وفي نفس الوقت تتسبب أمراض أخرى غير الأمراض السرطانية في ارتفاع نفس البروتين· وهو ما قلل بالتالي من فعالية وكفاءة استخدام فحص (PSA)، كإجراء طبي روتيني للكشف المبكر عن الإصابة بسرطان البروستاتا· هذا الوضع يحاول علماء جامعة ''نيوكاسل'' تغييره جذريا، من خلال قرص النانو الخاص بهم· فربما في المستقبل سيمكن لهذا القرص الكشف عن وجود كميات ضئيلة جدا من أنواع أخرى من البروتينات، لدى مرضى سرطان البروستاتا، وبالتالي تأك