صرح سمو ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز قبل أيام أن قرار قيادة المرأة للسيارة مسألة يقررها أبوها أو زوجها ''ولا علاقة للحكومة به، متى ما طلب الآباء والأزواج والإخوان أن تقود المرأة السيارة، فسننظر في ذلك، وإذا ما طلبوا العكس فلن نجبرهم على ذلك''· إنه يقول بوضوح إن هذه المسألة لن تحسمها الدولة بفرض قرار يهبط على الناس، وإنما على المجتمع أن يمارس دوره ويعبر عن رأيه، فأي نوع من الرجال أولئك الذين يريدون أن تحصل زوجاتهم وبناتهم على حق قيادة السيارة ويتمنون حسم هذا الموضوع الذي طال أمده، وجعل المملكة تبدو وكأنها خارج عصرها؟
إنهم رجال عاديون، يريدون أن يضعوا هذا الأمر خلف ظهورهم لينصرفوا، وتنصرف حكومتهم أيضاً عنه، لما هو أهم وأدعى، مما يفيد المجتمع، ويحمي أمنه، ويزيد من إنتاجه، ودخل أفراده· يريدون حسم مسألة ما كان يجب أن تترك فتكبر ككرة ثلج، لتتحول إلى قضية ينقسم حولها المجتمع، بينما هي مسألة تدخل ضمن أبجديات التطور، كالجمارك والابتعاث وتعليم المرأة والإذاعة والتليفزيون سابقاً والإنترنت ومنظمة التجارة العالمية، بل وحتى الجوال ذو الكاميرا، كل ما سبق حاول البعض جعله مسألة جنة أو نار، كفر أو إيمان، إسلام أو علمنة، ولكن قوة التاريخ حسمته، والغالبية قررت ما هو أفضل لها وقبل ذلك الاجتهاد الصحيح الذي أبقانا مسلمين في مساحة السماحة الواسعة التي تميز بها ديننا الوسطي، ورعت هذا الحراك الاجتماعي والحضاري قيادة رشيدة وازنت بين الاختيارات فاختارت أيسرها للمجتمع أسوة بالمصطفى عليه الصلاة والسلام الذي (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهمــا مـــــا لــــم يكــن إثمــاً) كمــــا جـــاء فـــي الحديث·
إنه رجل علم ابنته، وشجعها على اقتحام ميادين العمل مؤمن أن في ذلك فائدة عامة للوطن تعزز قدرته الإنتاجية، وفائدة خاصة للفتاة كي تشارك في تأسيس بيت يعيش في رخاء وبحبوحة تكون فيه عزيزة وشريكا كاملا، متساوية في الحقوق والواجبات· يضير هؤلاء الرجال أن يروا تلك الفتاة التي أرادوها قوية عزيزة وهي تنتظر بقلق وتململ سائقا يعود من مشوار ليأخذها إلى عملها، أو أخا صغيرا ترجوه أن يستيقظ من نومه الذي طال كي يوصلها إلى حيث تريد، أو زوجا يخرج بها متبرماً بعد أن قطعت عليه متعته في متابعة مباراة ''الاتحاد'' و''الهلال''، وكلاهما معه حق، فهي لديها أعمالها، كما للزوج حقه في متابعة حدث مهم كهذا والنتيجة خلاف زوجي كنا جميعا في غنى عنه·
إنه رجل اقتصادي، يخرج لك آلته الحاسبة ويستعرض بها أرقاما بليونية في تكلفة مئات الألوف من السائقين الأجانب، والخسارة التي يتعرض لها ميزان المدفوعات السعودي مع بعض الدول، والخسارة التي يتكبدها الاقتصاد السعودي من حرمان مئات الألوف من القدرات المتعلمة من الحصول على وظائف والمشاركة في عملية الإنتاج بسبب أنهـــا لا تستطيع أن تقـــود سيارة، ورجـــل كهذا يستحق أن نستمع لـــه ونستعرض معــه أرقامه·
إنه رجل عجوز قد يحتاج يوماً أن تأخذه ابنته إلى المستشفى، أو زوج دخله المتواضع لا يحتمل سيارة أخرى وسائقا، أو رجل يؤمن فقط بأن من حق ابنته أو زوجته ''الاختيار''، فإن أرادت أن تقود سيارتها فعلت وإن أرادت أن ''تجرجره'' معها في الأسواق وعند أرحامه الذين لا يطيقهم فعلت، أو أرادت أن تسترخي منتفشة في سيارتها التي يقودها سائق أجنبي أو سعودي (والغالب أجنبي يرتدي زياً سعودياً) فعلت· إن حق ''الاختيار'' أيها السادة نعمة لا يدركها إلا من حرم منها، واسألوا أي امرأة في بيتكم فيما إذا أرادت حقها في ''الاختيار'' وسوف تفاجأون بإجاباتها، خاصة أنتم أيها المحافظون الذين اعتقدتم أن النساء اقتنعن بحديثكم عن المرأة ''الجوهرة المكنونة واللؤلؤة المصونة''·
ولكن كيف يمكن للمرأة أن تحصل على حقها في الاختيار؟ من الواضح أن القيادة السعودية تريد للمجتمع أن يمارس دوره ويحدد قراره، تريد أن تكون محايدة، وتترك لقوة التاريخ وفعل المطالبة والمغالبة في أطرها الشرعية والنظامية أن تمــــارس دورهـــا فكيف يكون ذلك؟
لقد قال المعارضون كلمتهم، وجمعوا أسباباً كافية تجعل من قيادة المرأة للسيارة شراً مستطيراً، ولكنه بنفس المنطق الذي يغلب الشر على الخير وسوء الظن على حسن الظن· ولو اتبعنا منهجهم لما سُمح بالتلفاز والإنترنت والابتعاث للخارج، وحان الوقت أن يرفع المصلحون المؤيدون صوتهم ويعرضوا قضيتهم ولا أجد أفضل من القضاء والاحتكام لأنظمة الدولة ساحة لحسم هذه المعركة هذا العام حتى نخرج منه متفرغين لما هو أهم وأدعى·
إن نظام المرور في البلاد يخلو من بند يحظر على المرأة الحصول على رخصة قيادة، فلمَ لا يتقدم عدد من الأخوات الفاضلات إلى إدارة المرور في العاصمة الرياض أو في جدة بنفس الشجاعة والمبادرة التي فعلنها يوم تقدمن بطلب الترشح في الانتخابات البلدية الأخيرة فسجلن موقفاً تاريخياً، وفرضن قضيتهن ومطالبتهن فوعد أكثر من مسؤول بأن النساء سيشاركن في دورة الانتخابات القادمة·
سيحتار الضابط المستقب