طفرة نفطية أخرى تحققت في عام 2005 بعد طفرتي النفط في عامي 1974 و1981 حيث تضاعفت عائدات النفط تقريباً في الطفرات الثلاث المشار إليها، الطفرة الثانية حدثت بعد فترة قصيرة نسبياً، أي بعد ست سنوات من الأولى، أما القفزة الثالثة في الأسعار، فقد انتظرت البلدان المنتجة والمصدرة للنفط ربع قرن كامل قبل أن تتساقط عائدات النفط كالمطر الغزير معلنة عن البدء في مرحلة جديدة من النمو والتطور الاقتصادي في البلدان النفطية·
هناك فرق شاسع بين الأوضاع الاقتصادية في منتصف السبعينيات وبداية الثمانينيات ومنتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فهناك نضج ليس في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فحسب، وإنما في نمط التفكير والتعامل مع العائدات النفطية وفق المتطلبات التنموية في البلدان المنتجة للنفط·
عند منتصف السبعينيات كانت دول مجلس التعاون الخليجي، على سبيل المثال في بداية تطورها وكانت هناك حاجة ماسة لتطوير بنيتها الأساسية، بما في ذلك الطرق والمدارس والمستشفيات والمرافق العامة، حيث تم توجيه معظم العائدات الجديدة نحو استكمال هذه المرافق وتلبية حاجات المجتمع، خصوصا وأن أعداد السكان بدأت في النمو بنسب كبيرة جداً·
في الطفرة الثانية فاقت العائدات الاحتياجات التنموية للدول المصدرة للنفط، بما في ذلك احتياجات البنية الأساسية، مما أوجد ما أطلق عليه في ذلك الوقت ''البترودولار'' وهي الفوائض النقدية الناجمة عن صادرات النفط والتي وجدت طريقها للاستثمار في الخارج·
القفزة الثانية كانت قصيرة جداً، تلاها تراجع حاد أوصل سعر برميل النفط إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل في عام ،1982 مما خلق إشكالات عديدة، وبالأخص العجز في الموازنات الحكومية التي تعتمد بنسبة 90% في إيراداتها على العائدات النفطية، وكانت سياسة شد الأحزمة هي السائدة حتى منتصف التسعينيات عندما شهدت أسعار النفط استقرارا نسبيا، وذلك إذا ما استثنينا عام 1998 عندما تدهورت أسعار النفط من جديد·
الأسلوب الذي تعاملت به الدول المصدرة للنفط مع طفرة العامين الماضيين مختلف تماما عن طفرتي السبعينيات والثمانينيات، فبعد استكمال معظم مرافق البنية الأساسية والابتعاد جزئيا عن توظيفات ''البترودولار'' بسبب المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها هذه الاستثمارات الخارجية بعد أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، اتخذت سياسات مالية تهدف إلى توجيه هذه العوائد للأسواق الداخلية وإقامة المزيد من المشاريع الرامية إلى تنويع مصادر الدخل القومي·
من هنا نجد الإعلان عن مشاريع بمليارات الدولارات في كافة دول مجلس التعاون الست دون استثناء، تتقدمها دولة الإمارات التي تشهد نمواً كبيراً في أكثر من مجال، فبالإضافة إلى الطفرة العقارية والتوسع في مرافق البنية الأساسية، فقد دخلت في شراكة لإقامة مؤسسات صناعية مع شركات عالمية معروفة، في حين يشهد قطاع الاتصالات والمواصلات، وبالأخص النقل الجوي والمرافق السياحية تطورا ملفتا، أما القطاع المالي والمصرفي، فإنه يمر بحالة من الازدهار والنمو التي تجد انعكاساتها في بقية القطاعات الاقتصادية·
في نفس هذا الاتجاه أعلنت المملكة العربية السعودية عن مشاريع وإجراءات مالية مهمة، يأتي في مقدمتها الإعلان عن إقامة مدينة الملك عبدالله باستثمارات تبلغ 100 مليار ريال بالتعاون مع شركة إعمار الإماراتية، كما تم تقليص الديون الداخلية المتراكمة على الدولة بنسبة 50% تقريبا، لتنخفض نسبة هذه الديون من أكثر من 100% من حجم الناتج المحلي الإجمالي إلى ما نسبته 45% فقط من هذا الناتج، وهو تطور مالي في غاية الأهمية وسيكون له مردودات إيجابية كبيرة على مجمل الأوضاع المالية والاقتصادية في السعودية· أما بقية البلدان الأربعة الأعضاء في المجلس، فإنها تشهد انتعاشاً مماثلاً، وبالأخص البحرين وقطر، حيث تسعى الأخيرة إلى التحول إلى منطقة جذب جديدة في منطقة الخليج مستفيدة من الإمكانيات الهائلة التي تتولد عن صناعة الغاز والنفط القطرية·
نقطة مهمة أخرى تتميز بها الطفرة الحالية، ألا وهي تعدد المشاريع الخليجية المشتركة وتداخل المصالح بين مواطني هذه البلدان، حيث ساهمت الاتفاقية الاقتصادية الموحدة وما تبعها من أنظمة وقوانين في تشجيع هذا الاتجاه والذي سيحول دول مجلس التعاون الخليجي إلى أهم سوق إقليمية في منطقة الشرق الأوسط، مع كل ما يعني ذلك من انعكاسات إيجابية كبيرة على كافة دول المجلس·